الأستاذ "عمر السيد".. شهادة تأخرت ربع قرن

> خالد لقمان

> "إن الفن الأسمى للمعلم هو إيجاد المتعة في المعرفة والتعبير الإبداعي" ألبرت أينشتاين.
هذه المقالة هي شهادة حق مؤجلة ومقصرة في حق رجل لا يحتاج مني إلى شهادة. التربوي والمعلم والأب والقائد الأستاذ عمر السيد. في حياة كل منا شخصيات تترك أثراً لا يُنسى تغييراً دائماً مثلاً أعلى، يدخلون حياتنا فلا تصبح بعدهم كما كانت، يرون في كل منا ما يستحق الرؤية والتشجيع، لا يفقدون الأمل ولا ينشرون اليأس. لي ولمجموعة كبيرة من الطلاب التي درست في ثانوية لطفي جعفر أمان في فترة تواجد الأستاذ عمر السيد فيها عنى هذا الرجل لنا كل هذا وأكثر. فتح لنا نافذة لنرى الأمور بشكل مختلف في مرحلة كانت البلد تمر في حالة ضبابية في فترة التسعينيات بعد الوحدة اليمنية قبل الحرب وبعدها. كانت فترة تغييرات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية عاصفة. في تلك الفترة كان الأستاذ عمر السيد مع الأساتذة الأفاضل محمد سعيد منيعم، ومحمد ناصر غالب، وعلي جبران رحمه الله، وآخرين وأخريات أفاضل وفاضلات كانوا الرابط بين طلاب في فترة المراهقة والشباب في بلد لم يعد أحد يعرف ملامحه واتجاهه، وبين أهمية التربية التعليم، الاستقامة، والعمل الجماعي.
طلاب مع الأستاذ علي جبران
طلاب مع الأستاذ علي جبران

اكتشف الرجل مبكراً أن الشباب والمراهقين ما هم إلا طاقة ووقت وإبداع إنما السؤال في كيفية تحديد اتجاه واستخدام هذه العوامل. كنا في فترة فوضى في الشارع والمدرسة، تمرد، عدم وضوح، أحياناً لم يكن الزائر إلى الثانوية يميز الفرق بين الحصة والاستراحة. لا بد أن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية حينها (قبل الحرب وبعدها) انعكست على سلوك الطلاب، وأضافت إلى تمرد المراهقة والشباب مزيجاً ومزيداً من الوقود. بدأ الأستاذ عمر التعامل مع الطلاب والمدرسة الكبيرة نسبياً (16 فصلا دراسيا) بطريقة غير اعتيادية، طريقة أرى كيف أنها تعاملت مع كل التغييرات حينها. أنتجت هزيمة الجنوب في حرب 94 منهجاً للتربية الدينية ألف معظمه عبدالمجيد الزنداني، فتضاعفت حصص التربية الدينية عدة مرات فجأة، وألغيت مواد كالمنطق والفلسفة التي أتذكر أنها كانت تخصص الأستاذ عمر، تغيرت أسماء مدارس، وأضيفت إلى تحية الصباح تحية تذكر الناس بالنصر والهزيمة، الله، الوطن، الثورة، و(الوحدة).
الطالب عبدالكريم لالجي في نشاط ثقافي.
الطالب عبدالكريم لالجي في نشاط ثقافي.
عمر السيد (الأول جلوساً من اليسار) مع طلابه
عمر السيد (الأول جلوساً من اليسار) مع طلابه

بعد الحرب بعد إعادة فتح المدارس وفي ذروة عنجهية وسيطرة القوى المنتصرة جاء إلى المدرسة أحد المتنفذين المنتصرين، جاء بسيارة فاخرة وبمرافقين لزيارة طالبة في المدرسة، لم يحدد اسمها ولم يوافق على ذكر صلته بها. كان إذلال واستعراض قوة واضح منعه الأستاذ عمر السيد وأصر على موقفه رغم تشدد الموقف. جاء اتصال من مسؤول كبير للأستاذ عمر أن أسمح له بالدخول فوراً. رفض الأستاذ عمر وتشنج الوضع أكثر. كان فارق القوة واضحاً لصالح الزائر الوقح، ومع ذلك تمسك الأستاذ عمر بموقفه الصعب. حصل مواجهة جسدية بين مرافقي الزائر والأستاذ عمر أصيب فيها الأستاذ عمر رافقتها شتائمهم البذيئة وتهديداتهم بالسجن والقتل والفصل وما إلى ذلك. تجمع الطلاب والمدرسون ثم أنسحب الزائر ومرافقوه. عنى ذلك لنا كطلاب الكثير. أن الرفض والمقاومة والتمسك بموقف مبدأي رغم التهديدات هو موقف أخلاقي في المقام الأول. موقف آخر كان في انفجار مخازن جبل حديد وانطلاق القذائف في كل الاتجاهات بما فيها سقوطها في ساحة ثانوية لطفي جعفر أمان أثناء الامتحانات التجريبية، عم الخوف والفوضى، وكان الأستاذ عمر آخر المغادرين، ينضم مغادرة الطلاب ويوجههم ويخفف من خوفهم.
الطالب محمد بن سلمان في نشاط رياضي.
الطالب محمد بن سلمان في نشاط رياضي.

مشكلة التسرب من الحصص الدراسية كانت من المشاكل المزمنة في ثانوية لطفي جعفر أمان، ضاعفتها فوضى ما بعد الحرب، في فترة تولي الأستاذ عمر السيد وظيفة نائب، وثم مدير الثانوية، خفت هذه الظاهرة إلى حد الاختفاء. وجه طاقات الطلاب -المتسربين خصوصاً- إلى نشاطات أخرى كانت في صالح الطالب والمدرسة. بعض الطلاب اللذين عانوا من مشاكل مزمنة في مدارس عدة وتنقلوا بين المدارس وفصلوا من بعضها، كان التسرب أحد مشاكلهم فقط. ابتدع الأستاذ عمر السيد فكرة تفريغهم من بعض الحصص بالتنسيق مع المدرسين وتكليفهم بمهام إبداعية في المدرسة، مهام رياضية للطلاب وتجميلية لمبنى المدرسة. أيضاً، ساهم طلاب آخرون في طلاء القاعة الكبرى المهجورة وترميميها، في خط أحاديث شريفة وآيات وحكم على جدران المدرسة، في تنظيم فعاليات رياضية مستمرة، وطالبة تولت قيادة مهمة التشجير. كنا نغادر المدرسة ونعود إليها يومياً في العصر لهذه المهام، طوعاً وحباً. كنا نغادر ونعود والأستاذ عمر متواجد في المدرسة رغم سكنه البعيد عنها. شكل مع المدرسين والمدرسات نادي علمي ونادي قراءة وبرنامج لتبادل الكتب وحصص تقوية إضافية للطلاب المتعثرين ينفذها مدرسون وطلاب متفوقون. في الظروف العادية قد تبدو هذه الأنشطة طبيعية وعادية، لكنها لم تكن كذلك في ثانوية لطفي في تلك الفترة وفي المدينة ككل في فترة ما بعد الحرب مباشرة. أصبحت الثانوية تتفوق في المسابقات الفكرية والرياضية.
نشاط تجميلي للطالب أنصار مصطفى.
نشاط تجميلي للطالب أنصار مصطفى.
الطالب رامي الصنعاني أثناء طلاء قاعة الأنشطة
الطالب رامي الصنعاني أثناء طلاء قاعة الأنشطة
استشهد أحد الطلاب في ثانوية باذيب بمقذوف أثناء حرب 94، عزيز علي حسين الكيلة، كان من أكثر الشخصيات نشاطاً وشهرة في ثانويات المديرية، كان مرحاً ومتعدد المواهب، محبوباً جداً. تسببت وفاته في صدمة كبيرة للطلاب. شجع الأستاذ عمر السيد الطلاب على تصميم مجلة حائطية لعزيز، أسميناها "العزيز" تولى عبدالكريم طباعتها مجاناً في مطبعة الحظ التي تملكها أسرته وكان يعمل فيها. كان الأستاذ عمر يجد دائماً طريقة إبداعية وإيجابية لتنفيس مشاعر الطلاب وطاقاتهم. اكتشف الأستاذ عمر أن بعض الطلاب النشطين سياسياً يتسللون إلى المدرسة قبل الفجر ويوزعون منشورات سياسية في كل درج من أدراج الطلاب، في الثانوية وثانويات أخرى. كان من السهل جداً تحديدهم والقبض عليهم وقتها. كانت العواقب شديدة في فترة ما بعد الحرب. تعامل مع الموضوع بطريقة مختلفة. فتح مع الطلاب نقاشاً سياسياً واسعاً دون أن يخبرنا حتى بموقفه السياسي. دون أن يملئ علينا قناعاته الشخصية. إنما هو نقاش يقول فيه كل منا رأيه. كأن أحد الطلاب يأتي إلى المدرسة بمسدس شخصي خوفاً من مشكلة ثأر حقيقية تلاحقه. كان من الممكن إشعار الجهات الأمنية بسهولة. طلب الأستاذ عمر من الطالب تسليم المسدس الشخصي له كل صباح قبل الدوام واستلامه بعد الدوام. كان الأستاذ عمر يطمئن على الطالب في فصله في كل حصة تقريباً حتى حلت المشكلة. لكل مشكلة كانت تحدث في المدرسة عراك، تدخين، تأخير، كان للأستاذ عمر طريقة مختلفة، غير متوقعة وغير تقليدية وغير عقابية، وكانت تنجح دائماً.
الطالب الشهيد عزيز الكيلة
الطالب الشهيد عزيز الكيلة

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى