هل تهدد بؤر النزاع الجديدة الفيدرالية الإثيوبية؟

> منى عبدالفتاح

> الديكتاتورية تلاحق آبي أحمد والتمايزات قدر أديس أبابا المحتوم
وسط تطورات حرب التيجراي في إثيوبيا وتحويل الإقليم إلى منطقة معزولة لا تصل إليها المساعدات الدولية أو الإعلام، فُتحت جبهتا اشتباكات إثنية جديدة. الأولى بدأتها ميليشيات الأمهرا منذ أكتوبر الماضي باشتباكات محدودة، لكنها امتدت في ما بعد، واختلطت مع عصابات الشفتة في الحدود السودانية- الإثيوبية. والآن، طالبت بنشر قواتها الخاصة في بني شنقول قمز، المنطقة التي أقيم عليها سد النهضة.

أما الجبهة الثانية فهي تململ قومية العفر التي خرجت منها ميليشيات مسلحة، منذ أن أعادت الحكومة الفيدرالية ترسيم الحدود بينها وبين الصومال عام 2014، وظلت في اشتباكات متكررة، احتجاجاً على ضم بعض المناطق إلى إثيوبيا. وما يمكن أن يُسمّى بالحراك الإثني في إثيوبيا تغذيه عدة عوامل من شأنها تهديد الأساس الذي قامت عليه الفيدرالية الإثيوبية.

فواعل سياسية
كانت الأزمة الإثنية في إثيوبيا كامنة تحت فواعل سياسية متنوعة ومتجددة، وعندما بدأت تتحرك على أساس قومي لازمت التغييرات الطويلة الأمد والطارئة في مكونات الدولة. ومن المطالبة بحق تقرير المصير تطور الأمر إلى تشكيل أمة داخل الدولة الفيدرالية التي هيأت لشعبها تحقيق الحكم الذاتي لهذه الأقاليم المتنازعة ضمن تسعة أقاليم فيدرالية.

وهذه الطموحات المركبة جعلت إثيوبيا تواجه تحديات ذات طابع تصادمي، غذّاها إرث الإمبراطورية الإثيوبية قبل وبعد الاستعمار وتعرضها للتجاذب الأيديولوجي في أثناء حكم عهد الإرهاب الأحمر في وصف عهد منغستو هايلي ماريام، تعبيراً عن الطغمة العسكرية الشيوعية.

وبما أنها تضم قوميات مختلفة في محيط غير متصالح مع الديمقراطية، فلا تزال البيئة المحيطة بهذا الجزء من أفريقيا تنتابه النزعة الديكتاتورية التي تصبغ عمل الحكومات المنتقلة تدريجياً إلى نظم ديمقراطية معيبة، فأثرت في البيئة السياسية الإثيوبية المهيئة لذلك بحكم الاستقطاب، الذي لم يفلح في إزالته تطبيق الفيدرالية الإثنية كنظام حكم سياسي.

فتيل مشتعل
كانت الاضطرابات في غرب إثيوبيا بإقليم بني شنقول قمز قبل إنشاء سد النهضة عليه "غير مرئية"، لكن بعد ذلك تحوَّلت إلى فتيل مشتعل. إذ إن الإقليم تاريخياً متنازع عليه بين السودان وإثيوبيا، وجرى تقسيمه بواسطة الاستعمار الإنجليزي والإمبراطورية الإثيوبية القديمة، إذ سلَّمته الإدارة البريطانية للملك منليك الثاني إمبراطور الحبشة وفق اتفاقية أديس أبابا 1902، على أن يسحب قواته من منطقة القلابات شرق السودان.

وتمردت القومية عام 1932، مطالبة بالعودة إلى السودان، حيث جزء واسع من قوميتها ممتد داخل الأراضي السودانية، وأُخمد التمرد، وبعد ذلك أُنشئت المنطقة مرة أخرى على أساس دستور عام 1995، الذي ينص على تسمية الإقليم الفيدرالي باسم أكبر جماعة عرقية فيه.

وظلت المنطقة الواقعة بين السودان ومقاطعتي أمهرا وأوروميا ترزح تحت الفقر، وتطالب بالتنمية الاقتصادية والبنية التحتية، كما تعاني العنف الطائفي الناشئ عن نزاع بين السكان الأصليين وقوميتي الأمهرا والأورومو، خصوصاً في منطقة ميتيكل الريفية التي شهدت مذابح متكررة بين القمز والأمهرا، راح ضحيتها مئات الأشخاص، مما دعا إلى تحرك عمليات عسكرية من الحكومة الفيدرالية، لحفظ الأمن في المنطقة التي يرفض سكانها سد النهضة.

تحفيز إثني
أما إقليم العفر الذي يتمتع بحكم شبه ذاتي في شرق وشمال شرقي إثيوبيا، فقد نشبت فيه الأحداث نتيجة صراعات إثنية بين قومية العفر وميليشيات مسلحة من إقليم أوغادين، أدت إلى سقوط ضحايا من المسلحين والمدنيين. وطالب العفر الإثيوبيون بجزء من إقليم أوغادين المتنازع عليه بين بلادهم والصومال، بدعوى أنه كان جزءاً من أراضيهم.

وإذا كانت قومية القمز تتداخل بين السودان وإثيوبيا فإن قومية العفر تتشابك عبر ما يسمى بمثلث العفر الذي يحيط بعفر إثيوبيا، وهي المنطقة الممتدة في ثلاث دول: الصومال وجيبوتي وإريتريا.
ويقوم الاضطراب ذو الطابع الإثني أيضاً على عامل اقتصادي، إذ إن إثيوبيا تعتمد على موانئ جيبوتي في حركة صادراتها ووارداتها، ولم يخف قليلاً إلا بعد المصالحة الإثيوبية- الإريترية عام 2018 بعد أكثر من عقدين من المقاطعة، مما يفتح منفذاً بحرياً آخر أمام أديس أبابا لحركتها التجارية.

لكن، يظل المهدد هو التداخل ومطالبات العفر في المنطقتين. وذلك قد يؤدي إلى تصدُّع الدولة اقتصادياً، إذ يبدو أن إزالة هذه المسألة الإثنية ستحفز المطالبة بالتنمية، مما يجعل التأثير المتنامي لهذه السياسة الإثنية لا تختلف من الناحية الوظيفية عن النزعة القومية في إقليم التيجراي وإقليم بني شنقول، إذ يتضح أن هناك جامعاً بين ردود الفعل الإثنية هذه والتصاعد الأخير لثلاثتها.

أخطاء متواترة
ما أدى إلى تطور هذا النزاع، إضافة إلى الجذور الإثنية الكامنة، أن هناك أخطاءً متواترة في السياسة الإثيوبية، ويمكن الإشارة إلى الجدل الدائر حول شخصية آبي أحمد، الذي تحول في نظر هذه القوميات من نموذج ديمقراطي إلى تصويره ديكتاتوراً متشبثاً بالحكم. وكان أقوى الانتقادات من قوميته التي ينتمي إليها، إذ ظل يواجه تياراً متشدداً من الأورومو التي اعتبرته امتداداً للحكومات السابقة، خصوصاً في تحالفه مع قومية الأمهرا، وفي عدم تحقيق مطالبهم في قضية اللغة الأورومية وحسم التبعية للعاصمة أديس أبابا.

وفي ظل رد الفعل للجيش الإثيوبي وتحريكه عمليات عسكرية لهذه المناطق المشتعلة بدأت تتلاشى إنجازات آبي أحمد الأولى في بداية تسلمه منصب رئيس الوزراء في أبريل 2018. وحل الصراع محل ما قام به من إصلاحات سياسية واقتصادية وتوسيع الحريات بإطلاقه سراح السجناء السياسيين وإنجازه المصالحة بين بلاده وإريتريا التي قادته لنيل جائزة نوبل للسلام.

ربما نُسي كل ذلك وبرزت صورته عقيداً من داخل جهاز الأمن الإثيوبي استهدف النخبة السياسية والعسكرية القديمة، فأقال قادة التيجراي فور توليه منصبه، وعزل الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية، وأقام بدلاً منها حزب الازدهار والرخاء الذي ألغى كبار السياسيين معه، وسلّط الضوء على شخصيته زعيماً للحزب.
ومهما يكن السبب الكامن وراء هذه التحركات، فلا بد له من أن يخلق معارضة جديدة عملت تحت هذه المؤثرات لتصعيد التوتر في هذه المناطق.

وتأثرت شخصية آبي أحمد كذلك بما يدور في منطقة القرن الأفريقي من تجاوز للمدة الدستورية بإقامة الانتخابات في موعدها، وظل يمدد الفترة بحجج كثيرة، مما دعا إقليم التيجراي لإقامة انتخاباته من دون الرجوع إلى الحكومة الفيدرالية، وعدم الاعتراف بنتيجتها من قبل الحكومة. واستند في كل سياسته بعد ذلك إلى أنه بحسب الدستور كرئيس للوزراء، فهو يتمتع بأعلى الصلاحيات التنفيذية للحكومة الاتحادية.

المشهد الطائفي
يغذي المشهد الإثني بروز آخر مواز هو المشهد الطائفي، وفي هذا الوقت الذي تتقاطع فيه نزعات إثنية تخترق إثيوبيا ومحيطها من نفس القوميات المشتركة، ينبئ الوضع بانهيار الشكل الإثني العلماني، وتتسلّل من بين يديه نزعات إثنية مدعومة بالطائفة.
ونجد في هذه المناطق المشتعلة الإصرار على الإثنية، وعلى الاختلافات وربط إحداها أو كليهما بالدين مما يمكن معه تصور أن هذه الحركات وريثة الحركات القومية، أي أن أسلوب تنظيم التحرك الإثني محكوم بآلية جذور الإثنية، وهو بشكل أو بآخر يعني أن الدولة الفيدرالية لم تنجح على الرغم من أنها قامت من أجل حل هذه المشكلة.

وجدير بالانتباه أن الوضع السياسي في إثيوبيا محكوم بوجود ثلاث طوائف، تشمل المسلمين والأرثوذكس والبروتستانت، ويجمع بينها وجودها داخل هذه الإثنيات، مما يجعلها وقوداً إضافياً لتطورات الصراع الجارية بناءً على التنافس الذي يقود إلى إثارة التوتر. ونسبة إلى احتجاجات البروتستانت والمسلمين من هيمنة الأرثوذكس، فقد تتخلل وجودها المشترك بين الإثنيات، إذ تجمع كل إثنية واحدة بين طائفتين أو ثلاث.

وعلى الرغم من أن النزاع الإثني يُعبَّر عنه بتجاهل دور الطائفة في إثارته داخل الإثنية الواحدة، فإن الشواهد عدة على ذلك، منها أن قومية الأمهرا نبعت منها الحركة الوطنية للأمهرا التي قامت على أساس طائفي يُعلي من تأكيد مسيحية إثنية الأمهرا، مما دعا إلى احتجاج المسلمين في المنطقة.

وكذلك فمع أن قومية الأورومو حققت جزءاً من أهداف احتجاجاتها السابقة بتولي آبي أحمد رئاسة الوزراء فإن تيار الأورومو المتشدد في إطار اعتراضه على سياسة آبي أحمد أعلن عن تأسيس ما أُطلق عليه "كنيسة أوروميا الأرثوذكسية" في سبتمبر 2019، مما خلق بلبلة وسط الطائفة التي تعد "كنيسة التوحيد الأرثوذكسية" هي صاحبة النفوذ الأكبر في جميع أنحاء البلاد.

فخ التمايزات
إن تصاعد هذه الاضطرابات يعود جزئياً إلى حقيقة أن مبدأ إقامة الدولة على أساس إثني لا علاقة له بتوحيد الدولة الإثيوبية، إنما بتقرير المصير لكل قومية. ومفهوم الإقليم الفيدرالي كان يعني إقامة إقليم مستقل داخل إدارة الدولة ضمن حدودها على أساس وبمسمى أكبر الإثنيات في الإقليم المعين، مما أثار القوميات الأخرى الصغيرة.

ربما أرادت الحكومة الإثيوبية بالحديث عن القوميات المختلفة، إضفاء الشرعية على العمل السياسي، لكن أصبحت كل قومية تطالب بانفصالها عن الدولة الفيدرالية بناءً على مبرراتها الخاصة. وهناك ما يعمل ضد بقاء هذه القوميات على أساسٍ إثني أكثر من مبررات وجودها الحالية على هذا الأساس. فتكوينها يبين أن الحدود الإثنية لكل إقليم يُخلق استناداً إلى هذا الأساس لا إلى أي أساس آخر، فحتى لو حاولت الدولة الإثيوبية خلق جامع آخر فستقع في فخ التمايزات على أسس دينية أو لغوية أو ثقافية.

"إندبندنت عربية"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى