الانتقالي في موسكو.. اختراق جنوبي وقلق شمالي وتحفظ سعودي

> السياسة الخارجية الروسية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي أضحت سياسة مبنية على مصلحة اقتصاد وأمن روسيا أولاً وأخيراً، ولا مكان فيها للدعم المجاني الاقتصادي والعسكري ولا حتى للمواقف السياسية المجانية، فكل شيءٍ بمقابل وثمن. هذه هي فلسفة السياسية الخارجية الروسية المعاصرة التي باتت تتصرف وفقها موسكو مع الآخرين، ويجب أن يتصرف تجاهها ويفهمها الآخرون دولاً وكيانات، فالسياسة اقتصاد مكثف كما يُـقال... فعيون الشركات الروسية جاحظة بقوة نحو المناطق الدسمة، وباتجاه المنافذ والممرات والموانئ والجُــزر الاستراتيجية في المنطقة العربية والقرن الأفريقي، والبحرين: العربي والأحمر.

قيادات المجلس الانتقالي التي تزور اليوم موسكو تدرك - أو يجب أن تدرك - أنّ روسيا القرن الحادي والعشرين ليست الاتحاد السوفييتي القرن العشرين، وليس لروسيا حنين إلى مناطق نفوذ الاتحاد السوفييتي السابق لمجرد الرغبة بالسيطرة وبالعودة للتذكير بعصر الكرملين في السنين الخوالي مجاناً.

- اليوم روسيا دولة كبرى، ونفوذها بالمنطقة وبالعالم صار أكثر فاعلية حتى من النفوذ السوفييتي ذاته، وبات العالم ومنطقة الشرق الأوسط يخطُبُ وِدّها، ويحسب لها ألف حساب بعد أن صارت قوة اقتصادية عُــظمى إلى جانب قوتها العسكرية الهائلة، وأي علاقة وتفاهمات معها سواء من قِــبل المجلس الانتقالي الجنوبي أو سواه سيعني الكثير والكثير له، ليس فقط لثقلها العسكري والاقتصادي ومتانة وتشابك علاقتها الاقتصادية بدول الشرق الأوسط ودول الخليج بالذات والسعودية على وجه التحديد، بل لتأثيرها السياسي الفاعل والمباشر على مجريات الأحداث بالساحة الدولية ومناطق النزاعات، ورغبتها في لعب دور أكبر بتسوية هذه النزاعات، ومنها النزاع باليمن، للفوز بالمكاسب، وكسر سياسة هيمنة القُطب الدولي الواحد.

وقد كانت تصريحات السفير الروسي في اليمن (فلاديمير ديدوشكين) التي أدلى بها على خلفية الزيارة التي يقوم بها السيد عيدروس الزبيدي، رئيس هيئة رئاسة المجلس الانتقالي الجنوبي لموسكو واضحة برغبة روسيا بلعب دور بارز بالأزمة اليمنية، حين أشار قائلاً: (روسيا تأمل في أن تكون زيارة رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي اليمني عيدروس الزبيدي، إلى موسكو مثمرة، ننطلق من أن الزيارة ستسهم في جهود روسيا لإطلاق العملية السياسية هناك، واستئناف المفاوضات بين الأطراف اليمنية تحت رعاية الأمم المتحدة، التي يجب أن يشارك فيها للمرة الأولى ممثلو المجلس الانتقالي الجنوبي اليمني في وفد الحكومة الائتلافية الجديدة).

- إشارتين يمكن التقاطهما من تصريحات هذا السفير: أولاً أنه استخدم كلمة (يجب)، وهو يتحدث عن ضرورة مشاركة المجلس الانتقالي الجنوبي بالمفاوضات القادمة، وهي مفردة تحمل مغزىٍ سياسيا كبيرا، ورسالة صريحة لمَــن يعنيهم الأمر(محليين وخليجيين). ثانياً : إشارته إلى أن تكون هذه المفاوضات برعاية دولية، أي أن أية تسوية سياسية يجب أن تكون بإشراف دولي لا إقليمي وحسب.

- فبرغم أن هذه ليست الزيارة الأولى التي تقوم بها قيادات جنوبية تتحدث باسم القضية الجنوبية فقد سبقتها زيارات لرموز بالحراك الجنوبي ومجالسه الثورية، ولكنها المرة الأولى التي تبدي فيها موسكو هذا الانفتاح السياسي الواضح على القضية الجنوبية، كما أنها أيضاً المرة الأولى التي يلتقي فيها نائب وزير خارجية روسي (بوغدانوف) بقيادات جنوبية، وهذا يمثّــل نجاحا دبلوماسيا للانتقالي وللقضية الجنوبية، لا يمكن إنكاره حتى من أشد الخصوم. وبرغم أن هذا الخطاب الروسي ليس بالمستوى الذي يأمله الانتقالي، ولكنه باكورة سياسية من العيار الثقيل، خصوصا أننا نتحدث عن دولة بحجم روسيا، وفي وقت بالغ الحساسية والأهمية بالداخل اليمني. فيكفي التمعن بما ورد في البيان الصحفي الصادر عن الخارجية الروسية غداة اللقاء الذي جمع الطرفين: (لقد أولى الجانبان اهتماما خاصا لمناقشة آفاق الوقف التام للقتال في اليمن وتنظيم حوار بين السلطات اليمنية الرسمية وحركة "أنصار الله" الحوثية، بناء على اتفاق الرياض الموقع في 5 نوفمبر 2019م. وتمت الإشارة من الجانب الروسي بهذا الصدد إلى أن "الحوار الوطني الشامل الذي يراعي المصالح والقضايا المشروعة لجميع القوى السياسية اليمنية الرئيسة هو وحده كفيل بضمان الحل الدائم للعديد من المشاكل التي تواجهها الجمهورية اليمنية، بما في ذلك القضايا المتعلقة بتنظيم هياكلها الإقليمية والسياسية)، انتهى.

- ففي الوقت الراهن يظل مبلغ طموحنا من الموقف الروسي هو أن ترمي موسكو بثقلها للضغط على كل الفرقاء اليمنيين والسعودية والإمارات بوقف الحرب والتوجه صوب طاولة التسوية السياسية وإشراك فاعل وحقيقي للأطراف الفاعلة ومنها الطرف الجنوبي في التسوية السياسية الشاملة المرتقبة برعاية دولية سواء كان الجنوب ممثلا بالمجلس الانتقالي فقط أو جنبا إلى جنب مع سائر قوى ومجالس الحراك الثوري والشخصيات الجنوبية الموجودة بالداخل والخارج المؤمنة حقا بالقضية الجنوبية، والوصول إلى تسوية شاملة باليمن شمالا وجنوبا تشكل أرضية صلبة للاستقرار والسلام المنشود عوضا عن حالة الاحتراب والاقتتال، وعن هذا الكم المريع من الأحقاد والضغائن.

-بقي الإشارة إلى أنه من الخطأ التوقع أن تضحي موسكو بمصالحها الاستراتيجية الهامة مع السعودية، وتمضي بعقد شراكة منفصلة مع الطرف الجنوبي، فروسيا تعلم أن الرياض لا ترحب بفكرة استعادة دولة اليمن- على الأقل بالمدى المنظور- وتتملكها الحساسية المفرطة من أي تحرك للانتقالي على الساحة الخارجية، وبالتالي لا يمكنها -أي روسيا- المجازفة بمصالحها والمُـضي بعلاقتها مع الانتقالي أبعد مما تم مؤخرا (مع تأكيدنا على أهمية النجاح الذي سجله الانتقالي في موسكو). وهذا التوجس والقلق السعوديان هو ما فطنت لهما وزارة الخارجية الروسية وسارعت لإطلاق تصريحات تطمين للسعودية بهذا الشأن، وتأكيدها على أن العلاقة الروسية مع الانتقالي لن تخرج عن الإطار الذي تتحرك فيه السعودية والتحالف والأمم المتحدة بشأن الأزمة اليمنية.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى