القضاء والنيابة العامة في المرحلة المقبلة

> إن التطورات التي طرأت مؤخراً على الساحة القضائية تدفعني إلى التطرق لدراستين قمت برفعها إلى الجهات القضائية ووزير العدل في عام1997 وبداية الألفية الثانية للميلاد على التوالي.
والدراسة الأولى بعنوان "نحو تحديد مفهوم الاستقلال المالي والإداري للسلطة القضائية" والأخرى بعنوان "المركز القانوني للنيابة العامة ومدى استقلالها عن وزير العدل".

وتكتسب هاتان الدراستان في رأيي أهمية تاريخية وقانونية في اللحظة الراهنة على وجه الخصوص.

فمن ناحية ترتدي الدراسة الأولى أهمية تاريخية، لكونها توضح الظروف التي في ظلها نشأ وتطور مفهوم الاستقلال المالي والإداري للسلطة القضائية في القانون المقارن وفي القانون الأمريكي على وجه الخصوص، وانعكاسه على صعيد تقنين الدستور والتشريع القضائي في بلادنا خلال تسعينيات العقد المنصرم.

أما الدراسة الثانية فتتعرض للمركز القانوني للنيابة العامة الفرنسية حتى مطلع تسعينيات القرن الماضي، لكن مع ملاحظة أنها لم تتعرض للإصلاحات
القانونية التي عدلت في وضعية النيابة العامة الفرنسية خلال الأعوام 1993 و1998 و2008. ووضعت فيها ملحق بشكل استبيان يوضح المركز القانوني للنيابة العامة في عدد من البلدان المختارة بعناية، التي تجسد اختلاف أنظمتها في تنظيم الشؤون المالية والإدارية للقضاء.

أما الدراسة الثانية فتتناول الجدل السياسي والقانوني الحاد الذي انخرطت فيه الأوساط السياسية والقانونية الفرنسية بحيث أولى رئيس الجمهورية والبرلمان وأقصد هنا مجلس الشيوخ تنظيم النيابة العامة في التسعينيات عنايتهما الخاصة بحيث شكل كل واحد منهما لجنة لتقديم توصياتها إليه، والذي نتج عنهما إجراء تعديل في البنية القضائية في الأعوام المذكورة أعلاه.

وسبب تركيزنا على التجربة الفرنسية أن تنظيمنا الدستوري والقانوني لهذين الموضوعين قد تأثر بها بصورة عميقة وإن حاول الانفكاك عنها في الدستور بالاتجاه نحو التأثر بالقانون الأمريكي.
عند أخذه بمسودة التعديلات على دستور 1990 التي اتفقت علي الأحزاب السياسية والأوساط القانونية، وذلك فيما يتعلق الاستقلال الثلاثي القضائي والمالي والإداري للقضاء إلى جوار أخذه بمفهوم وحدة القضاء.

ومع إقرارنا بهذه الحقيقة إلا أننا نلاحظ عند قيامنا بتشييد نظامنا القضائي المجسد في قانون السلطة القضائية الذي ظل ساري المفعول حتى عام 2013 أن التجربة الفرنسية لا تزال تلقي بظلالها عليه من خلال استمرار سريان تقسيم المحكمة إلى دوائر متخصصة مع الفرق الناتج عن أخذنا بمبدأ وحدة القضاء واستمرار أخذنا بمبدأ التسلسل الإداري في تنظيم النيابة العامة رغم قطع صلتها السابقة بوزير العدل بعد عام 2013.

وقد أدى هذا التطور إلى نتيجة تناقض الاستقلال القضائي للنيابة العامة النابع من النصوص الدستورية التي تصفها بأنها هيئة من هيئات القضاء، وأن القضاء يشكل وحدة متكاملة تتمتع بالاستقلال القضائي والإداري والمالي، وذلك بسبب استمرار النصوص القانونية المتعلقة بسريان مبدأ تبعية أعضاء النيابة لرؤسائهم وفقاً للتسلسل الإداري الذي ينص عليه التشريع خاصة قانون النيابة العامة الشطري لعام 1977م، التي عممت الحكم على الجمهورية بأسرها، وما زال ساري المفعول حتى اليوم.

ورغم أن التعديلات القانونية التي أدخلت في عام 2013 على قانون السلطة القضائية قد أحدثت تغييراً جوهرياً في بنية القضاء ووزارة العدل إلا أنها مع ذلك حافظت على تقسيم المحكمة العليا إلى دوائر على نحو مشابه إلى حد ما مع نموذج محكمة النقض الفرنسية مع تميز التجربة الفرنسية بالأخذ بمبدأ تعدد جهات القضاء ووجود قضاء عادي على رأسه محكمة النقض وقضاء إداري منفصل يجسده مجلس الدولة ومجلس له اختصاص دستوري وإن كان لا يشكل محكمة في جوهره ونعني به المجلس الدستوري الفرنسي.

وفي رأيي لا زالت الاتجاهات القانونية التي اكتنفت تجربتنا القضائية منذ نشأة الجمهورية اليمنية تحتفظ بزخمها الفكري المتأثر بالتجربة الفرنسية، وخاصة أن مقررات مؤتمر الحوار الوطني قد اتجهت إلى نبذ مفهوم وحدة القضاء واستبدلته بمفهوم تعدد جهات القضاء بإنشاء قضاء دستوري مستقل وقضاء إداري مستقل إلى جانب القضاء العادي المستقل.

ومن المتوقع أن تشهد المرحلة المقبلة نقاشات جادة تتطرق إلى موضوع استقلال القضاء وخاصة المركز القانوني للنيابة العامة على ضوء التطورات الأخيرة في النيابة العامة، وذلك عندما توضع مسودة الدستور، التي وضعتها لجنة انبثقت عن مؤتمر الحوار الوطني للنقاش العام المفتوح لارتباطها الوثيق بقضية بناء الدولة المدنية الديموقراطية الحديثة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى