قراءة ذوقية في روائع شعر الغناء

> «الأيام» غلام علي *:

> هناك من الكلام المعسول الدارج ما يدغدغ المشاعر والوجدان ويسلب الأفئدة والألباب، لما فيه من لغة ناعمة مترعة ومشبعة بالجمال الناطق والعذوبة والانبهار.. ربما بعضه قد تفوق وترقى إلى مصاف الشعر الفصيح.. وبذلك نحسبه من الأدب ومن الفنون الراقية..
بيد أنه وعلى مر العصور ومنذ زمن الأباطرة والقياصرة والأكاسرة والملوك، أدرك الإنسان بسيكولوجيته وعفويته المطلقة أهمية هذه الفنون وقيمتها الأدبية.

نعرج هنا في محطتنا الأولى على الأمير العبدلي العملاق أحمد فضل القمندان (صاحب الريادة ومؤسس النهضة الثقافية والإبداعية) في لحجنا المحروسة حيث يغدق علينا بكل ما تجود به قريحته الشعرية الإبداعية من صور ومحسنات بديعية خلابة يفوق وصفها الوصف، وذلك من خلال تصويره البديع للجلسة الطربية وقراءة المشهد وما وراء السطور للرائعة: ( يا زين ليه التقلاب) وقوله فيها :

( يسحبوا الانس بين الفل والورد سحباب

ثم صوت الرباب، والعود والماء ينساب)

صورة جميلة وناطقة لجلسة طربية فنية للأمير وضيوفه الأكارم في ضيعته الخلابة على صفاف وجناين الحسيني بين أغصان الشجر والفل والورد والكاذي اللحجي والحَنُّون .. حيث كانت سببًا أي تلك الجلسة الطربية في عدم ( وفاء الميعاد للموعود) وتعطيل برمجة معدة سلفا، ووعد قد قطعه على نفسه بالمبيت والانتقال للضفة الأخرى ( بواسطة غلامه المرسل إلى هناك لاستعلام حالته) حيث كان الغلام آنذاك بمثابة البيجر أو التلغراف بين القصر والضيعة وقبل صناعة الواتساب والفيس بوك .. وذلك عند مباغتة وفد من ضيوفه الأكارم وعلى حين غرة في رياض الحسيني .. حيث لم يجد بدأ في الرضوخ والاستسلام للأمر الواقع وعدم مبارحة الضيوف وفقًا للعادات والتقاليد والبروتوكولات المعتمدة، مما ترتب على ذلك لاحقًا .. سبب له متاعب وضغوطات وتفاعلات نفسية من أقرب المقربين إلى قلبه صاحبة الصون والعفاف والدلال( شريكة العمر والروح) .. وفي تفجير ينابيع الإبداع بداخله ليغدق علينا وكما عهدناه .. أنفاسه الشعرية الخلابة .. وذلك في اليوم التالي عندما حملته رجلاه إلى هناك وألفى الباب (موصدا) والأجواء ملبدة بالغيوم ومشحونة ومكهربة وغير طبيعية تنذر برعود وعواصف.. ولسان حال عتبة الدار الناطق بالشارة الحمراء آنذاك( قف ... لا يمكنك الاقتراب ) .. كل تلك الأسباب والعوامل ساعدت في صناعة الزلزال بداخله ليبهرنا ويمتعنا بذلك الألق والإبداع وهو مازال واقفًا هناك يصدح بالتغريد:

افتح الباب .. افتح الباب

افتح الباب وإلا بايقع دوب قبقاب

أوجس القلب وذاب

ليه ضاع الحساب

تسلق حزيران في آب

( يازين ) قد كشفنا النقاب

( وبلاش تعب ونكد ووجع قلب ) خلاص هناك أسباب قاهرة حالت دون الوصول( اعتذار مبطن لمن يفهم الشفرة والرطنة).

ألا ليه وعدني وعاب

قفل على نفسه الباب

يا حقيب الخضاب

المحبة عذاب من صابه الله بها صاب

و بمقياسها الموسيقي أي( الإيقاع الزمني) تأتي تلك الرائعة على رقصة الهبيش اليرامسية الأبينية وكذلك على منوالها تأتي ( طبت يا المضنون ) وأغان أخرى.

وتتشابه إلى حد ما وتقترب كثيرًا بملامحها العامة مع رقصة( القيه ) الحضرمية مع الأخذ بالحسبان الاختلاف في الأداء الحركي ( تصفيق الأيادي ودقة الرجل) ، وذلك ينطبق أيضًا مع المشقاصي ورقصة العدة والهبيش الشبواني .

المحطة الثانية:

ونعرج فيها على الأمير العبدلي الحكيم ( عبده عبدالكريم) :

في مناجاته للدهر والأيام الخوالي على صوت المركح اللحجي الشهير:

( قسيت يا وقتي كثير وزاد فحسك والعناد تنذر وتتوعد تقول لي يا أدادك بالأداد .

وكذلك هو الحال عند غربته خارج الوطن، حينما استبد به الشوق الجارف والحنين الملتهب لمعانقة الأهل والأحبة، وجداول الحسيني الخلابة .. حيث لا حمى ولا سقعة؛ بل أصناف الزهور بدعة وجنة من جنان الدنيا:

( هيا الليل بانسري

للحوطة وللشقعة

لا حمى ولا سقعه

يا لحج الخضيرة حيث الزرع والترعة

وأصناف الزهور بدعة

بقعة أحسن البقعة

بي خندود وبي صامل

واهابوي بي ولعة

وبي غثى وبي شكعة

هيا الليل بانسري

للحوطة المحروسة )

المحطة الثالثة :

العملاق عبدالله هادي سبيت ( أمير الكلمة والفن والطرب)

حيث يستنطق الحجر والشجر والزمان والمكان بالفصيح والدارج في تطويعه لبعض مواضع الكلم وباقتدار عجيب على لحن ( المركح اللحجي الشهير) :

( كل ما صنفت بابدل سواه

قال لي ذا القلب والله إنك تباه، حسك قفاه

ما معك شي روح قد روحك معاه، منيتي مالي سواه

يبتسم لي الدهر في ساعة صفاه

آه منه آه ما أمرر جفاه وما أحلى رضاه).

كلام يفتت الصخر ويلين الحديد لما يحمله من مداعبة وأسى وشجن ..

وكذلك في رائعته الأخرى

( يا حاكم زمانه ) :

ما بنساك والله ما أنساك

كيف أنساك وانته معي دايم

دايم وسط قلبي أمانه

دوب القلب يرجف بنجواك

ماسك زام بعد الهوى هايم

من بعدك سبح في جنانه

يا حاكم. زمانه

المحطة الرابعة:

سيد العشاق والشعراء والفن والفنانين( الأسطورة حسين أبوبكر المحضار)...

وهو يقطر نغما ورقة وعذوبة بالكلام الذهب:

بفطرته المعهودة ونبوغه المتأصل وهو يغدق علينا بتلك الروائع الخالدة .. يتفرد عن غيره من الشعراء في توظيف لغة أهل الدارج ،ومنها الساحلية ولغة البوادي والحضر ومناطق الصحراء .. ومن ذلك ما ورد في الرائعة ( با نلتقي في سعاد ) وهو يترنم بذلك الحب الكبير المعشعش بداخله بالهمس وبالتغريد في حله وترحاله .. وفي صحوته ومنامه قائلا :

يا نور عيني ويا بهجة فؤادي

ع فرقتك ما اقدر

ما بين عيني وبين النوم بادي.. بيت حليف السهر

بتعملق منقطع النظير وعبر محضارياته تم توظيف كلمة ( بادي) التي أخذت مني وقتا طويلًا للبحث عن ماهيتها واشتقاقاتها بمعاجم لغة الدارج وتعني هنا ( الحرب بلغة البوادي والصحراء) ( معترك) صراع طويل و مستديم، أي بمعنى أدق ولتقريب الصورة حتى تغدو أكثر وضوحًا: أن هناك (حربا) مستدامة بين عيني وبين النوم .. فما أن تهدأ وتضع أوزارها حتى تعود للاشتعال ثانية وآنذاك أبات حليف السهر والنكد والقهد .. حيث لا يطفئه ويخمد جذوة اشتعاله إلا اللقاء المرتقب وبين أحضانك يا سعاد الخير ( سعاد الزبينة)

( يا له من تصوير محضاري بديع ) :

باشل حبك معي وبلقيه زادي ومرافقي في السهر

وبتلذذ بذكرك في بلادي

في مقيلي والسمر

وانته عسى تذكر ودادي وان قد تناسيت ياما ناس جم تناسوا الوداد

في خير انته وأنا بانلتقي في سعاد

في رائعته ( يا مول شامة)

هناك تصوير جميل للمشهد، ناطق وآسر للقلوب والأفئدة

وذلك من خلال الإذعان لسلطان الحب وسطوته الجبارة فبرغم التقمص بجلباب ( الكبرياء) وإخفاءه نار اللوعة والهيام والاشتياق بين الجوانح .. يفضحه (صدق مشاعره النبيلة ) كلما ركبه الشطط والاستعلاء وهو لا يعلم أين الحب منه بل وفيه مختبئ .

تفضحه نبل المشاعر الصادقة والجياشة كما يتراءى لنا ذلك عند إذعانه وإقراره بالقول:

مكاني كلما شفتك معدي

بدون شعور أشر لك بيدي

أو بابتسامة، يا مول شامة

وهو القائل آنفًا حيث يداري الهوى عند الاستهلال.. و متقمصا بجلباب ( الكبر والاستعلاء ):

محيتك من سطور مذكرات قلبي

محيتك من رسوماتي الجميلة

سؤال يبرز هنا ويبحث عن إجابة مقنعة: هل بالإمكان تحقيق ذلك؟ أي هل حقًا باستطاعة المحب المفتون أن يمحو الحبيب ويتم شطبه من الذاكرة بجرة قلم ؟

بعد أن تمكن منه ذلك الحبيب وعشعش واحتل مكانة رفيعة بشرايين وأوردة القلب المستهام؟

بكل تأكيد ستأتي الإجابة وبكل لغات العالم، دون عناء أو تكلف: لا، مستحيل.

* من كبار الموسيقيين بأبين وقائد الفرقة الموسيقية التابعة لمكتب الثقافة سابقا

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى