من علماء المسلمين "البيروني"

> كانت نشأته متواضعة جدًا في (بيرون) في أوزبكستان، مات أبوه وهو طفل، فعملت والدته على جمع الحطب، لتبيعه وتطعم صغيرها، وساعدها هو على ذلك، وبسبب عمله حطابًا صار عاشقًا للنبات والزهور، وكانت هذه المعاناة هي البداية؛ بأن يكون هذا الطفل واحدًا من أشهر علماء العالم، إنه أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني المولود في 2 ذو الحجة 362هـ (5 سبتمبر 973م).

التقى البيروني ذات يوم بأحد علماء اليونان، فأعجب العالِم به، فعرض عليه أن يكون رفيقه في سفره، وفرح البيروني بأنه سيصحب هذا العالم اليوناني؛ لأنه سيتحصل على أجر يساعد به أمه، ليريحها من عناء التحطيب، كان البيروني يتحدث الفارسية، ولكونه مسلمًا أجاد أيضًا العربية، وتعلَّم من العالِم اليوناني، اليونانية و السريانية، وكان العالم اليوناني معجبًا بهذا الفتى، فأوصى الأمير (أبو نصر منصور بن عراق) أن يعلمه، لما وجد فيه من نباهة، وهو لم يزل في الرابعة عشر، وكان أبو نصر هذا أحد أفراد الأسرة الحاكمة في (خوارزم)، وظل البيروني ملازمًا له، حتى استشعر أبو نصر أنه قد استنزف علمه، وأن البيروني لا يزال في رغبة للمزيد، وكان حينها في التاسعة عشر، فعين له أستاذًا خاصًا يدعى (عبد الصمد الحكيم) ليعلمه الفلك، والرياضيات، وجعل له راتبًا ومنزلًا له ولأمه، حتى بلغ الثالثة والعشرين.
مخطوطة رسمت بِيد أبي الريحان البيروني تبين أطوار القمر المُختلفة، من كتاب التفهيم (المخطوط بِالفارسيَّة).
مخطوطة رسمت بِيد أبي الريحان البيروني تبين أطوار القمر المُختلفة، من كتاب التفهيم (المخطوط بِالفارسيَّة).

اشتدت خصومات أمراء (خوارزم)، وخاف العلماء على أنفسهم، فترك والدته مضطرًا، وسافر إلى مدينة (ري) في إيران، وهناك لم يلتفت له العلماء، واحتقروه لفقره، وسوء مظهره، وتعرف على (الخوجندي) كبير علماء الفلك في الدولة، فأصبح مساعده في مرصده الفلكي، فتغيرت نظرة علماء الدولة له، وصاروا يطلبون مجالسته لغزارة علمه، وكان حينها في السادسة والعشرين.

هدأت الأمور في (خوارزم) فعاد إليها، ومنها إلى (بخارى) وتعرف على الطبيب (ابن سيناء) الذي أعجب به، وقدمه إلى الملك (المنصور الثاني) الذي ضمَّه إلى مجلس علمائه، فعرفهم البيروني بتفاصيل في الجيولوجيا، والفلك، والرياضيات، كما تحدث في الفيزياء عن سرعة الصوت، والضوء، وضغط السوائل، وتحدث عن الأوزان النوعية للعناصر، واستطاع البيروني أن يحدد الوزن النوعي لبعضها، وكانت نتائجه قريبة جدًا مما هي عليه الآن، في جدول (مندليف)، فأثبت البيروني أنه عقله موسوعة شاملة، فلم يتخصص في علم بعينه، لكنه درس عدة علوم، أستطاع أن يوظفها في علوم متكاملة.
البَيْرُوني كما يظهر على طابع قديم من الاتحاد السوفيتي طبع في 1973 مكتوباً عليه بالروسية ابو ريحان البيروني
البَيْرُوني كما يظهر على طابع قديم من الاتحاد السوفيتي طبع في 1973 مكتوباً عليه بالروسية ابو ريحان البيروني

اشتدت الخلافات السياسية في (بُخارى) فسافر مع (ابن سيناء) إلى (جراجان)، حيث أميرها (شمس المعالي) فوضعهما بين علماء قصره، وهو في الحادية والثلاثين، وبقي فيها سبع سنوات، غادر بعدها إلى (الجرجانية) عاصمة خوارزم، وكان أميرها (المأمون) الذي ضمَّه إلى مجلس علمائه، وكان من ضمنهم عبد الصمد، وهو من كان يومًا ما أستاذا له، لكن الخلافات دبَّت في الدولة، وقُتل المأمون على يد قواده، وهرب العلماء خوفًا على حياتهم، فأرسل (محمد الغزنوي) - سلطان الدولة الغزنوية، التي نشأت في شمال الهند، وخراسان بين 961 و 1187م - جيشه لتأديب الثوار، وجعله السلطان من علماء السلطنة المقربين له.

ومن الأعاجيب التي فعلها البيروني حينها، أن السلطان (محمد الغزنوي) أمر العلماء بقياس مسافة سلطنته التي امتدت من الهند إلى فارس، وخلال سنة كاملة تقريبًا من العمل اختلفت النتيجة بين العلماء في تحديدها، وبرروا للسلطان بأن المسافة كبيرة، ويصعب تحديدها، فتقدم أبو نصر وهو الذي كان أستاذًا للبيروني ذات يوم، وقال للسلطان: أحد تلاميذي يعتقد بأنه قد أوجد مسافة السلطنة، ويريد أن يعرض طريقته في مجلس العلماء، فوافق السلطان فورًا، فقال البيروني: إني قد وجدت المسافة عن طريق حساب زوايا ظل الشمس، في مواقع مختلفة من السلطنة، ووضع رقمًا للمسافة بين العاصمة (غزنة) ومدينة (شيراز) كمثال، وحدده بمائة وخمسين فرسخًا (الفرسخ يساوي تقريبا 5.8 كم)، وبينما أعجب السلطان بطريقة البيروني في حساب زوايا الظل، أعترض على الطريقة علماء المجلس، ربَّما غيرة، أو حسدًا، أو خوفًا على مكانتهم العلمية، فما كان من السلطان إلا أن أمر بقياس المسافة فرسخًا فرسخًا، وعند عودة مهندسي المساحة أعطوا الرقم ذاته، الذي حدده البيروني، فقال السلطان: قام البيروني في ساعة بما عجز عنه علماء السلطنة في سنة.

وأهتم البيروني بالصيدلة، وألف كتابًا عظيمًا فيها هو (الصيدلة في الطب)، ويعد من أعظم الكتب التي تحدثت عن أنواع الأدوية، واستخداماتها، حيث كان البيروني معجبًا بالعالم والطبيب الروماني (دسقوريدس)، وكتابه في الطب، وأراد أن يقوم بمثله، فكان أن قدم كتابًا يفوقه علمًا وتفصيلًا، فبينما سجل الأول ستمائة نبات طبي، عمل البيروني على تسجيل ثلاثة ألاف اسم، وصنفها بالهجاء العربي، وما يرادفها في اللغات الأخرى، شارحًا خصائصها الطبية؛ بل أنه قد عمل على تصحيح بعض الأسماء التي وردت في كتاب (دسقوريدس).

توفي البيروني في29 جمادى الآخرة 440 هـ 9) ديسمبر1048م) في عهد السلطان مسعود بن السلطان محمد الغزنوي، وذلك بعد أن ثقل سمعه، وضعف بصره، لكنه لم يتوقف عن التأليف والترجمة، وفي إحصائية لمؤلفاته باستثناء ما فقد منها، نجده قد وضع مائة وثمانون كتابًا في الفلك، والصيدلة، والطب، والجغرافيا، والنبات، والتاريخ، والجيولوجيا، والرياضيات، فقالوا عن القرن الـ 11 بأنه عصر البيروني، ولم يكن يكتمل أي تاريخ للرياضيات، أو الفلك، أو الجغرافيا دون علمه.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى