لعنة التناقضات ومفهوم "السيادة" في اليمن

> صالح البيضاني

> من داخل إحدى المجمّعات السكنية في ضواحي مدينة إسطنبول التركية، تعالت أصوات سياسيين وبرلمانيين يمنيين خلال الأيام الماضية لإعادة النظر في العلاقة بين "الشرعية" اليمنية والتحالف العربي لدعم الشرعية، الذي تقوده السعودية. وترافق ذلك، بطبيعة الحال، مع موجة جديدة من الاتهامات المبطّنة والصريحة للتحالف بانتهاك سيادة البلد الممزق، الذي تقتات نخبه السياسية على لعبة تغيير الكراسي والاصطفافات، وبيع الولاءات الإقليمية، وإشهار ورقة "السيادة" حينا، والتلويح باستدعاء لاعبين جدد إلى الملعب اليمني أحيانا أخرى.

وحقيقة الأمر أن ما يحدث اليوم في العلاقة التي تبدو ملتبسة بين تيار داخل الشرعية اليمنية، يفترض أنه معادٍ للحوثي، وبين دول التحالف العربي، التي جاءت بطلب من الرئيس اليمني، وشرعت وجودها عبر قرارات مجلس الأمن الدولي، ليس أمرا جديدا في التاريخ اليمني، بل يكاد يكون ظاهرة تستوجب دراستها بشكل عميق ومكثف موضوعي.

هناك تاريخ طويل من الاستقواء بالخارج في سجل الصراعات اليمنية، ومن ثم اتهام هذا الخارج، الذي تم جلبه إلى حلبة الصراع الداخلي، بأنه ينتهك السيادة، ويفرض وصايته على القرار الداخلي. وربما تعود أول حادثة مسجلة من هذا النوع للملك اليمني الشهير سيف بن ذي يزن، الذي استعان بالفرس لطرد الأحباش من اليمن، قبل أن يدرك لاحقا أنه سلّم اليمن لسيطرة الفرس، ليقول قولته الشهيرة: "استبدلنا أسيادًا بأسياد!".

وفي ستينات القرن الماضي تكرّر المشهد مجددا، حين التمس الضباط الأحرار الذين قادوا الثورة على النظام الإمامي في شمال اليمن بالرئيس المصري جمال عبدالناصر، الذي أرسل جيشه للقتال في جبال اليمن الوعرة لمساندة الثورة. غير أن قسما من الذين طالبوا مصر بالتدخل، رأوا في وقت لاحق أنها تفرض وصايتها عليهم، وأنها تصادر قرارهم الوطني، الذي لم يكن له ليصبح وطنيا لولا الدعم المصري، الذي كلّف القاهرة ثمنا باهظا.

ومن يتابع تفاصيل هذه التناقضات في استدعاء الخارج ثم الانقلاب عليه، لن يجد تفسيرا منطقيا لهذا السلوك السياسي الانفصامي الذي اتسمت به بعض النخب والقيادات السياسية اليمنية، التي لا تجيد قراءة معطيات الحاضر، ولا تداعيات قراراتها أو أفعالها الموسومة في الغالب بالانفعالية، وفي الأغلب بالبراغماتية السياسية القاتلة.

ويتكرر اليوم بصورة أكثر حدة مشهد استحضار السيادة الغائبة لدى شخصيات وقوى يمنية باتت تقارن بين دور التحالف العربي في اليمن وبين التدخل الإيراني لصالح الحوثيين، بل إن الأمر تجاوز ذلك لاستحضار الدعم المصري لثورة 1962 اليمنية بوصفه عبئا، لم تنتصر ثورة سبتمبر اليمنية إلا بعد التخلص من آثاره. وهي مغالطة تاريخية يراد اليوم أن يتم تسويقها في المعركة التي تخوضها بعض الأطراف اليمنية المؤدلجة ضد الدول التي أتت لمساندة اليمنيين في معركتهم ضد المشروع الإيراني.

ومن يتأمل جيّدا في تفاصيل الادعاءات، التي يروّج لها حول أطماع التحالف العربي المزعومة في اليمن، لن يجد لها أثرا حقيقيا وملموسا. فوجود قوات للتحالف في جزر البحر الأحمر أمر يندرج ضمن ترتيبات المعركة ضد الحوثيين الذين يصولون ويجولون بزوارقهم المفخخة في طريق الملاحة الدولي، ويسيّرون قوارب تهريب السلاح القادمة من إيران عبر ذات الممر، بل إن وجود قاعدة للتحالف في جزيرة ميون، على سبيل المثال، أمر أكثر منطقية من الناحية العسكرية من وجود قاعدة للتحالف في شبوة أو عدن.

ومحاولة تقييد التحالف عبر حملات إعلامية منظمة وممنهجة أمر يتعارض مع قاعدة المصالح المشتركة في العلاقات الدولية، على اعتبار أن اليمن في حال يسمح له بالتعامل بهذا الشكل في ظل حالة الصراع والتشظي، فالسعودية مثلا باتت هدفا رئيسا للهجمات الحوثية، وهو ما يمنحها المشروعية لاستخدام أراضي وجزر من أتت لمساندتهم للرد على الاعتداءات التي تتعرض لها.

والأمر الذي يستحق التوقف عنده، في سياق قراءة خلفيات الحملات التي يتعرض لها التحالف العربي، نجد أن الأيديولوجيا التي دأبت على تشويه دور مصر في دعم ثورة اليمن، هي ذات الأيديولوجيا التي تعمد اليوم إلى التقليل من تضحيات التحالف العربي في اليمن، الذي لولا تدخله لكان المشروع الإيراني يبسط سيطرته اليوم على كافة مساحة اليمن الجيوسياسية من حدود عمان شرقا حتى سواحل البحر الأحمر غربا، والدافع في الحالتين هو الاستلاب الفكري والارتهان السياسي لتلك القوى والشخصيات التي حملت العداء لمصر عبدالناصر، لأنها وقفت ضد جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وتجاهلت أن مصر عبدالناصر ذاتها هي التي قدمت الآلاف من الشهداء لإخراج اليمنيين من ظلام الإمامة إلى نور الجمهورية. وفي حال العداء للتحالف العربي اليوم، تبدو الأجندة السياسية والأيديولوجية حاضرة كذلك بقوة، فمن يناصبون العداء لدول التحالف التي تساند اليمنيين وتقاتل إلى جانبهم يفعلون ذلك خدمة لمشروع دولة خليجية (قطر) تساند الحوثيين أو تركيا التي تسعى إلى استخدام الملف اليمني في صراعها مع السعودية والإمارات.

والأعجب من ذلك كله أن تلك القيادات والشخصيات التي تشهر لافتة "السيادة الوطنية" هي ذاتها التي تلوّح بين الحين والآخر باستدعاء تركيا إلى الملعب اليمني، وهي ذاتها التي تتغنّى بأمجاد الاحتلال العثماني لليمن، وتتمنى عودته بوصفه عودة للخلافة الإسلامية.

ولا يبدو أن الحوثيين في منأى عن لعنة التناقضات، إذ يعملون وفقا لذات المفاهيم المخادعة التي يسوقونها عن السيادة اليمنية، في الوقت الذي يتجول فيه ضابط الحرس الثوري الإيراني حسن إيرلو في شوارع صنعاء بصفته حاكما ساميا لليمن، كما لم يعد خافيا استخدام طهران للحوثيين الذين وصفتهم ذات يوم بـ"شيعة الشوارع" كورقة في صراعها الدولي وفي مفاوضتها حول الاتفاق النووي.

وقد ضحى الحوثيون حتى بمصالحهم الاستراتيجية هم أنفسهم؛ من أجل مصالح إيران، واختاروا مواعيد تصعيدهم العسكري والسياسي تماشيا مع أجندة طهران، التي سارعوا إليها بعد أيام قليلة من انقلابهم على الدولة اليمنية، وفتحوا لها مطارات اليمن وموانيه، وذهبوا إليها زرافات ووحدانا، رافعين شعار "هيت لك" بعد أن أغلقوا أبواب اليمن في وجه محيطه العربي، بينما كانوا يرفعون فيه شعارات التحرر من الوصاية.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى