يوشك الشهر الثامن على الدخول، وجنود وضباط وزارة الدفاع (وبالذات المنطقة العسكرية الرابعة عدن) ووزارة الداخلية، والأمن دون رواتب. رواتب أصبحت أساسا فُــتاتا تذروها رياح الأسعار، وتبعثرها خلال ساعات عواصف الانهيار الاقتصادي والمالي العاتية، وأضحت معها الحالة المعيشة لهؤلاء بائسة إلى درجة أن أصبح لا يـــمرُّ يوم دون أن نسمع عن حالة انتحار لضابط أو لجندي، وجريمة تــقترف بحق أسرة بكاملها من قبل عائلها، وكارثة اجتماعية تطالهم وتطال أسرهم، والسبب حالة الفقر والعوز، بل إن ثمة عائلات عزيزة كريمة تقتات خِـــلسة من مكبّـــات المخلفات، أو في أحسن حال تتوسل المساعدات على أبواب أهل الخير، وعلى عتبات منظمات المساعدات الإنسانية، أما حالات المرض والعرض فمصيرها الموت والإذلال، فمن يأبه لهم؟
وإننا حين نتحدث عن مأساة أفراد وضباط هذه المؤسسات العسكرية والأمنية، وعن سياسة التجويع الممنهجة التي تقف خلفها عدة جهات داخلية وخارجية- سنأتي على ذكرها- فنحن بالضرورة نتحدث عن انهيار مريع يضرب الصعيدين: الأمني والعسكري -وليس مجرد ضباط وجنود وضرر يطال موظفين عاديين- الصعيدان اللذان يفترض أن يظِـلا بحالة أفضل من غيرهما من القطاعات الأخرى لأهمية دورهما، خصوصا في ظروف استثنائية كهذه التي نمر بها، وحتى في الظروف الطبيعية يفترض أن يظلا كذلك لعظَــمة وأهمية دورهما، ولما يشكل غيابهما كارثة على الكل وليس فقط منتسبيهما، كما أننا في ذات الوقت ونحن نتحدث عن هذه المأساة فنحن لا نتحدث فقط عن عشرات الآلاف من الضحايا بل عن ملايين، يعتمدون كليا على رواتب هؤلاء.
مؤسف أن نرى كل هذا الوجع الدامي دون أن تهتز للجهات المعنية- شرعية وانتقالي وتحالف- شعرة، ولا تحرك ساكنا... ولكن لماذا ستكترث هذه الجهات لمأساة لا يطالها شررها، ولا ينالها ضررها؟ فرجال هذه الجهات وأولادها يرفلون جميعا في رغيد العيش، سواءً في الداخل أو في فنادق الخليج، وشاليهات مصر، وكباريهات أوروبا ومنتجعات تركيا الفارهة. كما أن هذه الجهات ورموزها هي أصلا سبب المأساة وجذر المعاناة فمن كان سببا في نشوء المشكلة لن يكون من عوامل حلها، بعد أن جعلت من بؤس الناس وضروريات حياتهم من الخدمات والمعاشات أوراقا سياسية فوق طاولة لعبتها السياسية السخيفة.
فالشرعية تتحدث عن أوامر من الرئيس هادي موجهة للجهات المعنية، ومنها البنك المركزي بسرعة صرف رواتب المذكورين، ولكنها في الوقت عينه، وبشكل غريب تقول إن هذه التوجيهات يتم رفضها من البنك المركزي، وتحديدا من نائب المحافظ. والبنك بدوره يتذرع بذرائع واهية يستعصي على إنسان عاقل تصديقها. فهل يعقل أن الشرعية بجلالة قدرها وهيلمان سلطانها وصولجان السعودية المُــسخّر لخدمتها تقف عاجزة أمام ما تسميه بتعنت البنك المركزي ونائب محافظه، وهي، أي الشرعية التي عيّــنت هذا المحافظ ونائبه بقرارات جمهورية، بوسعها أن تطيّــر بهما من كرسييهما بقرارات جمهورية أيضا، وتأتي بغيرهما إن هي أرادت لتوجيهاتها حقا أن تُــحترم، وللمظاليم أن يُــنَــصفوا.
أما مبررات البنك المركزي فهي كما أسلفنا مبررات ركيكة تستخف بعقول الناس قبل بطونهم. فعلى سبيل المثال يقول أن من أسباب تأخر صرف مرتبات هذه المؤسسات يعود إلى عدم توفر أموال، وأن موارد المحافظات لا تورّد إليه ـ وأن آلية الصرف غير واضحة ويشوبها الشك بنزاهة الكشوف. فيما مئات الملايين تخرج من داخله إلى جهات مجهولة وملايين الدولارات تذهب تحت جنح الظلام إلى صرافة المضاربة بالعملات، وبعضها إلى خلف الحدود. ومحافظة عدن - التي يقع ضمن جغرافيتها معظم أفراد الجيش "المنطقة الرابعة" والأمن والداخلية - هي الوحيدة من بين المحافظات التي تُــورِد يوميا وشهريا كل ريال من مواردها المالية إلى خزائن هذا البنك. ثم أين تذهب الحاويات التي تصل تباعا من روسيا وهي تحمل تريليونات من الريالات اليمنية (طبعات جديدة) كالتي وصلت قبل أسبوعين إلى البنك، حسب مصادر من الشرعية نفسها؟ ونحن هنا نفند حكاية غياب السيولة النقدية.
وللتوضيح عن مغالطات البنك المركزي وضعف ذرائعه، وبالذات ذريعة غياب السيولة النقدية نزيدكم من الشِــعر بيتا: فحين أتخذ المجلس الانتقالي الجنوبي قرار الإدارة الذاتية القاضي بحجب موارد العاصمة عدن عن البنك المركزي كانت أصوات داخل هذا البنك وخارجه تتحدث عن أموال طائلة لا تُــعد ولا تحصى يستأثر بها الانتقالي لنفسه، فسبحان الله، أين ذهبت هذه الأموال بعد أن ألغى الانتقالي قراره واستأنف توريد موارد المحافظة لهذا البنك؟
والتذرع بحُــجج كهذه تسقط بسهولة وبشكل فاضح. الحوثيون ظلوا يصرفون ويرسلون مرتبات كل المؤسسات، وفيها العسكرية إلى كل المحافظات، سواء الخاضعة لهم أم غير الخاضعة، واستمروا حتى بعد أن تم سحب البنك المركزي منهم إلى عدن لقرابة عام، دون بنك مركزي بحوزتهم، ولا موارد نفطية ولا غازية ولا قروض ولا ودائع بنكية. الهزيمة الأخلاقية أسوأ أنواع الهزائم.
وقبل هذه الجهات كلها، يظل التحالف هو المسؤول الأول عما يجري من جرائم بحق الضحايا ومن مآسٍ وفظائع - على الأقل بحكم وجوده كسلطة أمر واقع مهيمنة ومسئولة على هذه الجهات- مع أنه وفق قناعة السواد الأعظم من الناس، راضٍ عما يجري، بل ويشجعه من خلف الستار لحسابات خاصة به وبمشاريعه المعلنة والمخفية.