الأمة العربية ثمرة المسارات التكاملية بين العروبة والإسلام

> الأرض العربية أرض عظيمة منها تستمد الأمة العربية وشعوبها عظمتها. وعلى هذه العظمة اصطفاها الرحمن لتكون خير أمة أخرجت للناس، فمن بين صفوفها اصطفى الله عز وجل الأنبياء والرسل حاملي الرسالات السماوية، وأصبحت الأرض العربية بحق موطن الأنبياء ومهد الرسالات السماوية.

تمثل الأمة العربية لحظة الجمع بين الحق والقوة بين الإسلام والعروبة، فالإسلام صادر عن الحق جلا وعلا وهو دين الحق. وجاء نزول الوحي وظهور الإسلام في لحظة إتمام مسارات التاريخ الحضاري للشعوب على الأرض العربية. مسارات دشنها أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام "إن إبراهيم كان أمة"، وأتممها خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا"، حيث تشير الآية الأولى إلى مقصد إبراهيم المتمثل في بناء الأمة، فيما تشير الآية الثانية إلى بعدي الكمال والتمام (الحق والقوة) بعدي الإسلام والعروبة التي بتكاملهما اكتملت الشروط الكمية والنوعية لبناء الأمة العربية.

لقد جاء التنزيل الإلهي بلسان عربي مبين، ومن ثم فالخطاب الإلهي موجه إلى النبي العربي خاصة والأمة العربية بصورة عامة. وأصبحت الأمة العربية مكلفة بنشر الدين وإيصاله إلى الأمم الأخرى بدعوتهم إلى الدين "بالحكمة والموعظة الحسنة" ولا "إكراه في الدين" قال تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً". فالدين للناس كافة وليس حكراً على أمة، وما اختيار الأمة العربية إلا أن تكون الأمة المكلفة بنشر الدين وإيصاله إلى الأمم الأخرى.

ومن أجل أن تؤدي دورها بوصفها الأمة المكلفة بنشر الدين، عليها استيعاب الدين وتطبيق مضامينه في البناء الذاتي للأمة العربية، وتطبيق علاقات الحق والقوة والعدالة في العلاقات الداخلية بين شعوبها وفي علاقاتها الخارجية مع الأمم الأخرى، وصولاً إلى بناء النموذج الذي يتناغم مع التوصيف الذي وصفها به الله عز وجل حين قال: "خير أمة أخرجت للناس".

ولإحقاق ذلك بينت النصوص القرآنية أن الإنسانية منظمة في تنظيم بنيوي له وجه داخلي ووجه خارجي يخلقان توازناً يحفظ الحق وإحقاق العدالة، داخل كل شعب وبين الشعوب داخل الأمة، وبين الأمم في المستوى الإنساني.

فلكل شعب مكوناته الجغرافية والسكانية والوظيفية التي تتقابل مع بعضها وتصنع التوازن والتكامل بين هذه المكونات صانعة بذلك الاستقرار الداخلي للشعوب وحفظ تماسكها ووحدتها لتشكل هي الأخرى التوازن بين الشعوب المكونة للأمة. وهو توازن يحفظ اتحاد الأمة واستقرارها الداخلي ويجعلها السور المنيع للدفاع عن حقوق شعوبها، فالأمة مجتمعة تخلق توازناً مع الأمم الأخرى، وتغلق الأبواب أمام تدافع القوى العالمية للسيطرة على أراضيها، فتنقذ نفسها وتحمي حقوق شعوبها وتمنع استخدام فضائها الجغرافي كساحة تصادم وصراع بين القوى العالمية. وهي بذلك تقدم خدمة عظيمة للاستقرار العالمي.

للإنسانية بنيان قواعده الشعوب وأعمدته التنظيم الوظيفي الداخلي القائم على التقابل والتكامل داخل كل شعب (القبائل) وسقفه الأمة التي تتحدد حدودها بحدود الشعوب المنضوية تحت ظلها.

قال تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير". وبحسب ناصيف نصار في كتابه "مفهوم الأمة بين الدين والتاريخ" ذكرت لفظة الأمة في ما يقرب 65 مرة في الآيات والسور القرآنية المختلفة تتحدث جميعها عن تعدد الأمم، نذكر منها :"وكذلك جعلناكم أمة وسطاً"، "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر"، "كنتم خير أمة أخرجت للناس"، "لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة"، "وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون"، "ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم".

جغرافية المنطقة العربية بموقعها، المتميز كانت ومازالت محط أطماع الإمبراطوريات المتعاقبة في المراحل التاريخية المختلفة فتعرضت لغزو واحتلال من الحضارة الهيلنية وحضارات أمم أخرى.

إن شعوب المنطقة بتنوعها وتعددها الحضاري متفرقة لا تقوى منفردة الدفاع عن نفسها بوصفها صاحبة الحق في الأرض، حيث أنجزت على مدى عشرات القرون في تطورها التاريخي والحضاري تحديد حدود الحق بين شعوب المنطقة وكان عليها بناء القوة القادرة على الدفاع عن نفسها، حيث كان عليها أن تتعاون وتتكامل مع بعضها لبناء الأمة، فجاء الإسلام لينجز بناء الأمة بإكمال وإتمام عوامل بنائها بتكامل الكمال النوعي الذي جاء به الإسلام والتطور الكمي الذي أنجزته مسارات التطور الحضاري لشعوب المنطقة، وتكاملا العمودان الإسلامي والعروبي تكاملاً شكل سر الصعود الرأسي للأمة العربية.

تكامل المسارات الكمية والنوعية الأفقية والرأسية أفضت إلى تحديد حدود الحق في البعد الأفقي والتحول إلى المسار الرأسي في بناء القوة اللازمة لتلبية احتياجات الحق. في المسار الأفقي تحددت حدود الحق الوجودي عبرت عنها حلقة البناء الشعوبي، فيما تحددت في المسار الرأسي آلية الوصول إلى القوة اللازمة للبقاء عبرت عنه حلقة القبائل داخل كل شعب والأمم في المستوى الإنساني.

على هذا النحو يتبين أن الحق في بعده الوجودي يتحدد بحدود جغرافية على الأرض، فيما القوة اللازمة للبقاء تتحدد حدودها بحدود الحاجة، فالحاجة تحدد سقف القوة (حاجة وجود وبقاء الأمم).

بتشكل الأمة العربية استعاد العرب قوتهم وتمكنوا من استعادة أراضيهم وتحريرها من غزاة الحضارات الأخرى، فتم تحرير الشام والعراق ومصر والمغرب العربي، فأصبحت الأرض العربية كلها أرضاً محررة.

اكتملت حدود الأمة العربية ودولتها العربية الإسلامية وصارت الأمة سورها المنيع. لكن هل حدود الأمة هي حدود الدعوة.؟ تناول الإجابة على هذا السؤال د. عصمت سيف الدولة في كتابه "عن العروبة والاسلام"، ونتفق تماماً مع تلك الإجابة التي قال فيها: "أبرم الخليفة الثاني عمر بن الخطاب معاهدة مع الفرس بعد أن فتح سعد بن أبي وقاص مدينة المدائن على إثر انتصاره الساحق في موقعة القادسية، وكان من بين ما ارتضاه أمير المؤمنين في تلك المعاهدة أن تكون سلسلة الجبال التي تلي العراق شرقاً حدوداً "دولية" بين دولة الخلافة (العربية) وإمبراطورية الفرس. والتزاماً بتلك المعاهدة أصدر أمير المؤمنين أوامره بألاّ تجتاز جيوش المسلمين تلك الحدود. هذا ما ارتضاه عمر بن الخطاب حدوداً للدولة. فهل ارتضى أمير المؤمنين، أو كان يمكن أن يرتضي أن تكون تلك حدوداً للدعوة أيضاً؟ ثم أن منذ خلافة عمر بن الخطاب كان الدين الإسلامي قد بدأ في الانتشار خارج الدولة (العربية) إلى درجة لم يكن يعرف، حتى الخلفاء مداها".. "فقد كان الرحالة والتجار المسلمون يبشرون بالإسلام ويدعون إليه بعيداً عن حدود الدولة العربية (دولة الخلافة)، ويقدمون بعد آياته من أنفسهم نماذج للإنسان المسلم فيهتدي إليه كثيرون. إن مئات الملايين من المسلمين اليوم، في الهند والصين وماليزيا وإندونيسيا والفلبين وفي دول الاتحاد السوفييتي السابق وشرق أفريقيا ومئات الجزر المتناثرة في المحيطات. كل هؤلاء وأسلافهم وأسلاف أسلافهم لم يهتدوا إلى الإسلام في ظل دولة الخلافة أو بفعلها منذ نشأت في عهد أبي بكر إلى أن انقضت ولم يكونوا يوماً من رعاياها، ولا زعم أي خليفة أنهم رعاياه وهم اليوم يكونون الأغلبية من مسلمي العالم".

إن كل ذلك يعني أن الاسلام شامل فهو "للناس كافة" والأمة محدودة. فالخلط بين شمولية الإسلام وعالميته والأمة العربية الإسلامية بحدودها الجغرافية المحددة، وأن لها أرضاً محددة مثلها مثل الأمم الأخرى كانت ومازالت تمثل سبباً مباشراً لمشاكل العرب الكبرى."ليس هناك أي تلازم بين الإسلام والدولة، فيحبسون الإسلام في دولة، وليس هناك تلازم بين وحدة الأمة الإسلامية ودولة واحدة لكل المسلمين".

هذا الخلط قاد إلى انتقال العرب من أمة لها حدودها الجغرافية إلى إمبراطورية حدودها حدود قوتها، وكان ذلك تمدداً للقوة بدون حق، لقد كان انفصالاً فجاً لقوة الأمة عن أراضي الأمة والدخول في فضاء التدمير الذاتي لقوة الأمة. فانتقلت الأمة من مسار الصعود إلى مسار السقوط. الذي بدأ بالتفكك الداخلي فمن المركز القيادي الواحد إلى مركزَي دمشق وبغداد إلى ثلاثة مراكز قيادية في كل من دمشق وبغداد والقاهرة.

تجاوزت الإمبراطورية العربية الإسلامية حدودها وخرجت إلى أراضي الغير باسم الإسلام لنشر الإسلام، وباسم الإسلام أيضاً عادت الأمم الإسلامية الأجنبية، حيث انتقل مركز الإمبراطورية من العالم العربي إلى تركيا فأخضعت الأمة العربية لهيمنتها مستغلة التشرذم وتعدد المراكز القيادية للأمة والضعف الذي تمر به الأمة، فاستمرت تحت الهيمنة الأجنبية إلى ما يزيد عن 400 عام.

المتغيرات الدولية التي شهدها العالم في نهاية القرن 19 وبداية القرن 20 وصعود القوى الاستعمارية الأوروبية وأفول نجم الإمبراطورية الإسلامية (العثمانية). وضعت القوى الاستعمارية عينها على العالم العربي واختلفت حد التصادم بينها حول كيفية تقاسم ما أسمته "إرث الإمبراطورية العجوز" حيث كانت تنظر إلى جغرافية العالم العربي بأنها مفتاح السيطرة على العالم. هذه النظرة حولت الأرض العربية إلى ساحة صراع وتصادم المشاريع الدولية. في العقدين الأولين من القرن العشرين تواجهت على الأرض العربية ثلاثة مشاريع كبرى:

1 - المشروع التحرري العربي.

2 - المشروع الإمبراطوري التركي.

3 - المشروع الاستعماري الغربي.

سبقت المشاريع الثلاثة مقدمة كبرى تفرعت منها بعض المقدمات الصغرى كان لها عميق الأثر في تحديد النتائج التي ستؤول إليها المشاريع الثلاثة.

المقدمة الكبرى التي ينبغي بيانها تكمن في أن الأمة هي تكتل بشري يظم مجموعة من الشعوب لكل منها أرض محددة يجمعها منهج أو عقيدة محددة تختص بتنظيم علاقات الحق والقوة والعدالة بين الشعوب المنضوية تحت ظل هذه الأمة وتحدد شكل علاقاتها الخارجية مع الأمم الأخرى. هذا الاتفاق الجامع بين شعوب الأمة يمثل دستورها وأساس يقوم عليه اتحادها والوحدة الداخلية لشعوبها ومصدر قوتها.

شهدت المنطقة العربية مقدمتين صغرى ضربت في الصميم الاتفاق الجامع بين شعوب الأمة، حيث "تمرد الأمويون على الخليفة علي بن أبي طالب، وانتصروا وأقاموا خلافتهم في العاصمة دمشق كما تمرد عليهم لاحقاً أبو العباس السفاح وانتصر وأقام الخلافة العباسية في بغداد، ثم تمرد عبيد الله بن محمد المهدي في المغرب وانتصر وأقام خلافة الفاطميين في القاهرة فشملت المغرب الغربي ومصر والشام". لقد كان بحق صراع سلطة ونفوذ غلّف بأغطية مذهبية، وسلالية عرقية وجهوية ضربت العمودين العروبي والإسلامي اللذين بتفككهما تفكك عقد الأمة واتحادها، ووهنت قوتها، وكانت تلك المقدمة الكبرى فيما كان التفكك الداخلي وتعدد المراكز القيادية للأمة وتجاوزها الحدود الدولية لأراضيها ومحاولة فرض سيطرتها على أراضي شعوب أخرى شكلت المقدمات الصغرى لضعفها وانهيارها وانقضاض الأمم الأخرى على أراضيها واحتلال شعوبها. بهذا المعنى فإن عوامل سقوط الأمة ثلاثة:

1 - تخريب المنهج أو العقيدة الموحدة للأمة في التعامل بين مكوناتها الداخلية وفي تعاملاتها مع الأمم الأخرى.

2 - تجاوزها لحدود أراضيها وتمددها داخل أراضي الأمم الأخرى.

3 - تفككها وظهور تعدد مراكزها القيادية.

وإذ نظرنا إلى عوامل السقوط نجدها حاضرة في المشاريع الثلاثة العربية والتركية والأوروبية وإن اختلفت نسبة الضرر عند أصحاب هذا المشروع أو ذاك، حيث انتهت المشاريع الثلاثة بالفشل لأنها تحمل أسباب فشلها.

قيادة المشروع التحرري العربي وهي تخوض حرب تحرير ضد الاحتلال التركي وقعت في خديعة التحالف مع الحلف الاستعماري الغربي، ولم تكن تعلم أن الحلف الاستعماري الغربي كان يخطط لاقتسام المنطقة العربية والحلول محل الاحتلال التركي بعد هزيمته، فانتهت الحرب العالمية الأولى بهزيمة تركيا واقتسام العالم العربي بين القوى الاستعمارية الغربية. وصاحب ذلك ظهور تسمية الشرق الأوسط بدلاً من اسم الوطن العربي وزراعة الجسم الغريب في خاصرة الأمة العربية ليفصل المشرق العربي عن مغربه (إسرائيل)، فلم تستهدف الأرض وحدها، بل عنوان الهوية (العروبة). بهذه النتيجة هزم المشروع الفيدرالي العربي الذي رفعته الأمة العربية في حربها التحررية ضد الاحتلال التركي.

وبعد عقدين من الزمن أفرزت الحرب العالمية الثانية وضعاً جديداً عناوينه سقوط المشروع الاستعماري الأوروبي، تثبيت التقاسم الاستعماري وتحويل أقاليم النفوذ في الوطن العربي إلى دول مستقلة؛ ثم ظهور التبعيات نصف الدول العربية تابع للأمريكان، ونصفها الآخر تابع للاتحاد السوفييتي.

استمر هذا الوضع الى 1990م عام سقوط الثنائية القطبية تزامناً مع سقوط الاتحاد السوفييتي وظهور نظام القطب الواحد، وظهر مشروع الشرق الأوسط الجديد. مشروع غايته دعم وتثبيت نظام القطب الواحد وينطلق من النظرية القائلة: إن من يسيطر على ما أسموه "الشرق الأوسط" يستطيع السيطرة والتحكم بالعالم كله. وللوصل إلى تحقيق أهداف المشروع أعلنت الجهات التي تقف وراء المشروع الخطوات الآتية:

- إعلان الحرب على الإرهاب وأن الإرهاب يرتبط بالإسلام والإسلام شرق أوسطي.

- اتفاقية سيكس بيكو كانت خطأ وتعسفت المجتمعات وأقامت الدول العربية لمجتمعات غير متجانسة تظم في تركيبتها الداخلية مذاهب وأعراقاً غير متعايشة، ومن ثم الحاجة إلى إعادة رسم الخارطة السياسية للدول العربية وإنتاج شرق أوسط جديد يكون قوامه ما يزيد عن 60 دولة بدلاً من 21 دولة عربية، وأن من أجل ذلك دفع المنطقة إلى الدخول في ما أسموه "الفوضى الخلاقة" عن طريق إشعال الحروب والصراعات المذهبية والعرقية والجهوية، توصل إلى إعادة تموضع السكان ونشوء ما تم تسميته "حدود الدم" بين الجماعات المتصارعة، وعلى أساس ذلك يعاد تأسيس الدويلات المذهبية والعرقية ليس بينها أي جامع ديني أو مجتمعي، مما يسهل السيطرة عليها وتوجيهها في خدمة النظام الدولي الجديد القائم على القطب الواحد، لكن ليس كل ما يتم التخطيط له يجد طريقه للتنفيذ، فالصراع الدائر اليوم بين مشروعين: مشروع القطب الواحد، ومشروع عالم متعدد الأقطاب، وهذا في حد ذاته يوفر فرصة للعالم العربي للإفلات مما يخطط ضده، إذ كفت النخب العربية الفكرية والسياسية والاقتصادية والدينية عن الهرولة وراء المشاريع الخارجية. لقد تسببت قيادات الأمة وبعض مفكريها في تفكك الأمة وفقدان شعوبها لاستقلالها في المراحل التاريخية المختلفة. فقد كانت وراء انفصال القوة عن الحق المحدد للأمة وتحول الأمة إلى إمبراطورية، وتسببت بفعل صراعاتها الداخلية والتنافس على السلطة في تفكك الأمة وظهور تعدد المراكز القيادية، وكانت السبب في انتقال مركز الإمبراطورية الإسلامية من الأمة العربية إلى تركيا ووقوع الوطن العربي تحت الهيمنة التركية، وكانت قيادة المشروع التحرري العربي في أوائل القرن العشرين وراء هزيمة المشروع بتحالفها مع أعداء الأمة ووقوع شعوبها تحت الهيمنة الأجنبية. كما كانت قيادات التحرر الوطني للشعوب العربية وراء القبول بتثبيت الدولة القطرية وانقسام العالم العربي إلى مجموعتين إحداهما تابعة للقطب الأمريكي والأخرى للقطب السوفييتي.

تترابط الأزمنة ببعضها ترابط الشجرة بجذورها، فالحاضر جذوره آتية من الماضي، وفي الحاضر تصنع مداميك المستقبل. فمخطط الشرق الأوسط الجديد هو تواصل لمشروع "الشرق الأوسط" الذي وضع حيز التنفيذ بداية القرن العشرين، الأول استهدف تفكيك الأمة، فيما الثاني الذي دشن بداية القرن الواحد والعشرين، استهدف تفكيك الشعوب المكونة للأمة العربية ودولها العظيمة. الأمة هي التكامل بين الحق والقوة، فالشعوب تمثل تحديات الحق والعلاقات الحقوقية بين مكونات الأمة، وهي بهذا المعنى تمثل مضمونها الداخلي، فيما الأمة تمثل وجهها الخارجي وسورها الدفاعي الأول. بضرب وتفكيك الأمة أصبحت الشعوب التي تمثل حلقة الحق حلقات منفصلة عن بعضها البعض لا ترقى إلى مستوى الدفاع عن نفسها، ومن السهل الانقضاض عليها.

لقد اختير توقيت البدء بتنفيذ المخطط بعناية، حيث أخذت بالحسبان العوامل الدولية والإقليمية والمحلية التي بدت لراسم المخطط جاهزة لوضعه حيز التنفيذ، فعلى الصعيد الدولي انهيار التوازن الدولي وظهور نظام القطب الواحد وفي المستوى الإقليمي اكتمال تفكيك الأمة وبلوغها مستوى غير مسبوق من الضعف وانطلاق الربيع العربي كعنوان مضلل لما عُرف "بالفوضى الخلاقة" الموجهة لتفكيك الشعوب ودولها الوطنية، والتهيئة لرسم خارطة الشرق الأوسط الجديد الذي تختفي فيه أعمدة العروبة والإسلام.

في ضوء ذلك، ينبغي تطوير موقف عربي مضاد لإفشال هذه المخططات عنوانه الكبير رفض أي تغيير في الخارطة السياسية العربية بدولها المعترف بها بعد الحرب العالمية الثانية، وصارت تتمتع بالعضوية الكاملة في الأمم المتحدة والجامعة وبالاستفادة من صراع القوى الكبرى بين دعاة نظام القطب الواحد والساعيين إلى نظام متعدد الأقطاب ينبغي تطوير الموقف العربي بحيث يتم التركيز على الاتجاهات الآتي ذكرها:

الاتجاه الأول: تقوية التنسيق والتعاون بين الدول العربية وتقوية الجامعة العربية وتوسيع صلاحياتها وتطوير وظائفها وجعل النظام العربي أكثر قوة بتقوية وظائفه الدبلوماسية والدفاعية والاقتصادية.

الاتجاه الثاني: كشف المعاني والأهداف التي يحملها مشروع الشرق الأوسط الجديد والعمل من أجل إسقاطه ووأده في المهد وتحريم المذهبية والعرقية وإعلاء شأن الهوية العربية والإسلامية واعتبارها مظلة يستظل بها كل أبناء الأمة والتعامل بمبدأ المواطنة، فالأرض عربية وكل من يعيش وصار مواطناً على الأرض العربية فهو عربي، العمل على إسقاط التعامل مع المفاهيم الجهوية المظلة والحفاظ على الهوية بشقيها العربي والوطني.

الاتجاه الثالث: تعزيز المواقف الوطنية لكل الشعوب العربية وتعزيز وحدتها الداخلية وجعلها داعمة للتنسيق والتعاون العربي ومقاومة أي محاولات لزعزعة استقرارها والحفاظ على دولها الوطنية، وإعادة الاعتراف بالدول التي طالها التفكيك مثل دولتي اليمن ودولة السودان وسحب الاعترافات التي تمت بإلغاء دولتي اليمن وفي تغيير خارطة دولة السودان مع العمل على وضع الحلول الضرورية لأي إشكالات داخل هذه الدولة أو تلك.

التحدي الأكبر الذي يواجه العرب اليوم يكمن في التعامل مع السؤال الكبير: هل السياسة والنخب السياسية المسؤولة عن إدارة حاضر الأمة وشعوبها تستطيع التصدي لمشروع الشرق الأوسط الجديد وتلحق به الفشل والهزيمة، وتمنع تفكيك الأساس الوجودي للأمة المتمثل بالشعوب العربية ودولها الوطنية، وتعمل على إصلاح ما خربته السياسة والنخب السياسية عبر المراحل المختلفة من التطور التاريخي للأمة؟ أم أنها ستواصل السير في طريق أخطاء الماضي، وتصبح مسؤولة مسؤولية مباشرة عن تمرير آخر مخطط يهدد الأسس الوجودية للأمة. فالخطر الماثل أمام العرب اليوم خطر وجودي تكون فيه الأمة أو لا تكون.

*أستاذ الفلسفة السياسية في كلية الآداب بجامعة عدن- مقال خاص بـ "الأيام".

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى