خطة دستورية لفترة انتقالية وانهيار العملة في الجنوب

> القاضي/ أحمد عمر بامطرف:

>
  • خارطة طريق دستورية لرفع المعاناة عن الناس وإنقاذ البلاد من الانهيار لغياب الدولة
  • أربعة محاور دستورية أمام الانتقالي ستمهد الطريق لتأسيسه دولة فيدرالية واستفتاء شعبي جنوبي توريد إيرادات النفط الى مركزي عدن سيساعد في تجفيف منابع الفساد وتعافي العملة
  • لماذا حرب الخدمات والأزمات المُستعرة في الجنوب فقط؟
  • إنجاز الحوار الوطني الجنوبي لضمان تمثيل في مفاوضات إنهاء الحرب وإحلال السلام
لا يختلِفُ اثنان في عدم وجود دولة في الجنوب حاليا - من الناحيتين الدستورية والواقعية - وذلك بسبب الغياب الكامل للسلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية عن ممارسة مهامها الدستورية والقانونية، فنتج عن هذا الغياب فراغ دستوري شامل أنهى وجود الدولة في الجنوب، ولم يتبقٓ من بقايا الدولة في الجنوب سوى بعض إدارات محلية، يمارس القائمون عليها مسؤولياتهم بجهودهم الشخصية وبصعوبة بالغة من أجل توفير الحد الأدنى من المتطلبات الضرورية في حياة المواطنين في ظل أزمات حادة مفتعلة وممنهجة، هي في الأصل مؤامرة كبيرة تُحاك ضد شعب الجنوب تحديدا أنتجت أوضاعا كارثية يعيشها الناس في جميع جوانب حياتهم المعيشية والاقتصادية والاجتماعية والخدمية والصحية والتعليمية تستهدف إفقار الناس وتجويعهم وإذلالهم والضغط عليهم للتخلي عن مشروعهم الوطني لبناء دولتهم الديمقراطية المستقلة،

فالسلطة التنفيذية (الحكومة) التي تُقيم منذ سبع سنوات في فنادق الرياض - تعاني فراغا دستوريا منذ أن غادر وزراء الشرعية في حكومة المناصفة العاصمة عدن في 27 مارس 2021 دون عودة حتى الآن، ولم تُفلِح الجهود التي بُذِلت ولا مفاوضات الرياض التي جرت بين الشريكين في حكومة المناصفة وهما المجلس الانتقالي الجنوبي والشرعية في إعادة الحكومة إلى العاصمة عدن لممارسة مهامها.

وبالنسبةِ للسلطة التشريعية فقد انتهت شرعية مجلس النواب منذ أكثر من (14) عاما مضت حتى الآن، حيث اُنتُخِب في 27 إبريل 2003 لفترةٍ زمنية محددة دستوريا وقانونيا مدتها (4) سنوات انتهت في 27 إبريل 2007 ومنذُ ذلك التاريخ حتى الآن لم يُنتخب مجلس نواب جديد، مما شكل فراغا دستوريا مستمرا في السلطة التشريعية لن تُزِيلهُ المحاولات اليائسة لتجميع من بقي على قيد الحياة من أعضاء المجلس المنتهية شرعيته لعقد جلسة لهم في محافظة حضرموت، سيُشكِلُ انعقادها تحديا صارِخا لإرادة المواطنين الناخبين من جِهة، وانتهاكا للشرعية الدستورية من جِهةٍ أخرى، أما مجلس الشورى الذي يتكون من أعضاء معينين من قِبل رئيس الجمهورية فقد توقف هو الآخر عن ممارسة مهامه في الجنوب طيلة السنوات السبع الماضية، فلم يعقد خلالها أي اجتماع له لا في الجنوب ولا خارجه ومع ذلك تصدر بين الحين والآخر عدة قرارات جمهورية بتعيين أعضاء جدد في المجلس، وفي 2021/1/15 تم تعيين رئيسا لمجلس الشورى ونائبين للرئيس بقرار جمهوري صدر بالمخالفة لقانون لائحة مجلس الشورى الذي يُوجِب انتخاب رئيس المجلس ونائبيه بالاقتراع السري في اجتماع عام للمجلس.

أما السلطة القضائية فهي متوقفة أيضا منذ ستة أشهر حتى الآن عن ممارسة مهامها بالكامل بعد أن تم تعليق العمل في المحاكم والنيابات العامة في الجنوب من ِقبل نادي القضاة الجنوبي اعتراضا منه على قرار رئاسي بتعيين نائب عام من خارج إطار السلطة القضائية صدر مخالفا للدستور لانتهاكه مبدأ استقلال القضاء من جِهة، ومخالفتِهِ قانون السلطة القضائية من جِهةٍ أخرى، وعدم تلبية مطالب نادي القضاة الجنوبي بإلغاء ذلك القرار، وِبحل مجلس القضاء الأعلى وإعادة تشكيلِهِ من جديد، أدى إلى الاستمرار في توقيف أعمال السلطة القضائية، مع أن السلطة القضائية ينبغي ألا تعاني فراغا دستوريا لأن القضاء هو الملاذ الوحيد للعدل والأمان، والحامي للحقوق والحريات العامة والخاصة، والضامن لسيادة القانون، هذا من جهة، ومن جِهةٍ أخرى فإن القضاء هو الذي ينبغي أن يتولى قيادة الدولة وإدارة مهامها، وتسيير شؤونها في حالة حدوث فراغ دستوري في السلطتين التنفيذية والتشريعية معا تجنبا لانهيار الدولة، وهو ما حصل في دول كثيرة من بينها جمهورية مصر العربية في بداية عام 2011 عند قيام ثورة الربيع العربي (ثورة الشباب) التي أطاحت بنظام حسني مبارك ومؤسساته الدستورية، ثم الإطاحة من بعدِهِ بنظام محمد مرسي وحكم الإخوان المسلمين وما نتج عن ذلك من فراغ دستوري في السلطتين التشريعية والتنفيذية نتيجةً لحل مجلسي النواب والشورى وإقالة الحكومة وتعطيل العمل بالدستور، مما حدى بالمجلس العسكري إصدار إعلان دستوري قضى بتكليف رئيس المحكمة الدستورية العليا (المستشار عدلي منصور) للقيام بممارسة مهام واختصاصات رئيس الجمهورية لفترة انتقالية مدتها عامان قام خلالها الرئيس المُكلف بتشكيل الحكومة وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، وبعدها سلم السلطة للرئيس المُنتخب عبدالفتاح السيسي.

وفي الجنوب، استمرار غياب الدولة نتيجة لتوقف السلطات الثلاث عن ممارسة مهامها الدستورية والقانونية وعن القيام بواجباتها تجاه الشعب، وما نتج عن ذلك الغياب من فراغ دستوري شامل، فإنه إذا لم تُتخذ بشأنِهِ إجراءات عاجِلة وحلول حاسِمة سيؤدي استمراره إلى الانهيار العام وتشظي البلاد ونشوء كيانات مناطقية وجهوية وقبلية وفئوية متناحرة، وسيسبق ذلك انهيار اقتصادي أولا، وقد بدأت بوادر الانهيار الاقتصادي تظهر أمام أعين جميع المواطنين في الجنوب من خلال ما يعانونه في حياتهم اليومية من كوارث ومآسي، تتفاقم يوما بعد يوم من جراء حرب الخدمات والأزمات المُستعرة، التي تُشن عليهم بطريقة مفتعلة وممنهجة، ومقصودة يأتي في مقدمتها التدهور اليومي المُتصاعد في قيمة العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية حيث تخطى الدولار الأمريكي حاجز الألف ريال مما نتج عن هذا التدهور ارتفاعا متزايدا في أسعار جميع المواد الضرورية والاستهلاكية أدي إلى اتساع الفجوة بين دخل المواطن ونفقات معيشتِهِ، وعلى سبيل المثال في مجال المحروقات، وهو مجال هام وحيوي في حياة الناس تنعكس الأسعار فيه على جميع الجوانب الأخرى في الحياة المعيشية، حيث تتصاعد بصورة شبه يومية أسعار المحروقات حتى وصل سعر الدبة البنزين أو الديزل سِعة (20 لترا) في جميع المحافظات الجنوبية، وفيها محافظتا حضرموت وشبوة المنتجتان للثروة النفطية، (12000 ريالا)، بينما في محافظة مأرب لا تزال (الدبة بنزين) بسعرِهِا القديم منذ عشر سنوات حتى الآن وهو ( 3500 ريالا).

وما من شك في أن تدهور العملة الوطنية والانهيار الاقتصادي بشكل عام سيحول حياة الناس إلى جحيم لا يُطاق في ظل عجز قيادة البنك المركزي عن القيام بأية حلول جذرية وحاسمة لإيقاف تدهور العملة الوطنية وتغاضيها عن رفض بعض المحافظات الخاضعة للشرعية توريد إيراداتها العامة إلى خزائن البنك المركزي في عدن، وأهم تلك الإيرادات عائدات مبيعات النفط والغاز إلى العالم الخارجي التي تُقدر بمئات الملايين من الدولارات شهريا يتم توريدها إلى البنك الأهلي السعودي في الرياض بدلا من توريدها إلى البنك المركزي في عدن، ولا يُعرف ما مصيرها ، لأن توريدها إلى خزينة البنك المركزي في عدن سيساعد حتما على تجفيف منابع الفساد وعلى تعافي العملة الوطنية وتوقيف التدهور اليومي المُرعِب في قيمتها مقابل العملات الأجنبية.

وإزاء هذه الأوضاع الكارثية القائمة في الجنوب في الوقت الحاضر، والتي تزداد تفاقما يوما بعد يوم في ظل الفراغ الدستوري الشامل الذي نتج عن الغياب الكامل للسلطات الثلاث للدولة عن ممارسة مهامها وعن القيام بواجباتها تجاه المواطنين وفشل الجهود التي بُذِلت لعودة الحكومة وتوقف أعمال السلطة القضائية دون أن تلوح في الأفق أية بوادر لحل أزمة القضاء وتلبية مطالب القضاة، فإنه من المهم أن يعلم الجميع أن هذه الأوضاع الكارثية لن تحلها الاحتجاجات السلمية ولا التظاهرات وإحراق إطارات السيارات في الشوارع وتلويث البيئة ولا الاعتصامات ولا العصيان المدني وما إلى ذلك من احتجاجات سلمية مهما تعاظمت واستمرت، فهي جميعها لن تؤدي إلى إنهاء الأوضاع الكارثية ورفع المعاناة عن الناس وتجنيب البلد الانهيار، لأنه لا دولة في البلاد أصلا لكي تستجيب لاحتجاجات الناس، وتحقيق مطالبهم ورفع المعاناة عنهم، وإنما يتوجب على المجلس الانتقالي الجنوبي إنقاذ البلاد والعِباد من هذه الأوضاع الكارثية وتوقيف الانهيار والتشظي الوشيك للبلاد باعتبار المجلس الانتقالي الجنوبي هو كيان سياسي معترف إقليميا ودوليا بشرعيته، وهو الشريك في حكومة المناصفة الشرعية، وهو الحامل السياسي لقضية شعب الجنوب، والمفوض من جماهير الشعب في الميدان بتحقيق أهداف وأماني وتطلعات شعب الجنوب، وبناء مستقبله، ولديه من القدرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والأمنية ما يُمكِنهُ من إنقاذ البلاد من الانهيار ورفع المعاناة عن الشعب، وذلك من خلال خارطة طريق دستورية نضعها أمام المجلس الانتقالي الجنوبي.

وللأهمية، نُعيد التأكيد بأن هذه الخارطة الدستورية تستهدف تحقيق المصلحة العامة لشعب الجنوب من خلال إنقاذ البلاد من الانهيار العام الوشيك واحتمالات التشظي، والحيلولة دون انزلاق الجنوب إلى كيانات مناطقية وجهوية وقبلية وفئوية متناحرة، وإنقاذ الناس في الجنوب من المعاناة الرهيبة التي يعانون منها في حياتهم بشكلٍ يومي بسبب ما آلت إليه الأوضاع الكارثية، هذا من جهة، ومن جِهةٍ أخرى، فإن الحلول والإجراءات التي تتضمنها هذه الخارطة سوف لن تتعارض مع أية حلول سياسية قادمة تستهدف إنهاء الحرب وإحلال السلام في اليمن وإعادة ترتيب الأوضاع مستقبلا في الجنوب والشمال، سواء كان على أساس دولة اتحادية فيدرالية لفترة انتقالية مؤقتة (من 3 - 5 سنوات) يعقبها استفتاء لشعب الجنوب، أو على أساس حل الدولتين مباشرةً، ونلخص خارطة الطريق الدستورية المقترحة فيما يلي:

أولا- على مستوى السلطة القضائية:
يقوم المجلس الانتقالي الجنوبي بإصدار إعلان دستوري (وهو الأساس الشرعي) بتشكيل هيئة قضائية عليا من الكوادر القضائية ذات الكفاءة العالية والخِبرة والنزاهة والتاريخ الوطني المُشرِف من خلال ما تؤكِدهُ السيرة الذاتية لِكُلِ مُرشح، تتولى تفعيل أعمال المحاكم والنيابات العامة وجميع الهيئات القضائية الأخرى وإدارة شؤون السلطة القضائية ومعالجة كافة الاختلالات التي تعاني منها، ووضع خطة لإصلاح قضائي شامل تستهدف تحديث وتطوير البناء المؤسسي والتنظيمي والتشريعي لأجهزة السلطة القضائية.

ثانيا- على مستوى السلطة التنفيذية:
يقوم المجلس الانتقالي الجنوبي بإصدار إعلان دستوري آخر بتشكيل هيئات من الاختصاصيين في الشؤون المصرفية والمالية والاقتصادية والاجتماعية والخدمية، من الكوادر الوطنية ذات الخِبرة والنزاهة والكفاءات العالية تستهدف اتخاذ الإجراءات الحاسمة لإيقاف الانهيار الاقتصادي وحرب الخدمات والأزمات ورفع المعاناة عن الناس، وبدرجة رئيسة عاجلة لاتخاذ إجراءات إيقاف تدهور العملة الوطنية، ومعالجة اختلالات الوضع الاقتصادي، واتخاذ الإجراءات اللازمة لضمان تدفق الإيرادات المحلية والوطنية، وفي ذلك إيرادات مبيعات النفط والغاز الخارجية إلى خزينة البنك المركزي في عدن، وإدارة النظام المصرفي والمالي، والنظام الجمركي، والنظام الضرائبي، وتنظيم إجراءات إدارة جميع المرافق الإيرادية والخدمية، وضمان دفع رواتب الموظفين والعاملين في قطاع الخدمة المدنية والعسكرية، وكل ذلك بالتنسيق مع أجهزة السلطة المحلية.

ويحق للمجلس الانتقالي - كلما اقتضت الضرورة - اتخاذ إجراءات دستورية مماثلة في إطار ممارسة أية مهام أخرى مما هو من اختصاصات السلطة التنفيذية داخليا وخارجيا.

ثالثا- على مستوى السلطة التشريعية:
يقوم المجلس الانتقالي الجنوبي بإصدار إعلان دستوري آخر يستهدف تطوير أعمال الجمعية الوطنية للمجلس الانتقالي الجنوبي وتفعيل دورها في المجتمع باعتبارها النواة واللبنة الأساسية للسلطة التشريعية مستقبلا، وتطوير أعمال الهيئات والدوائر المتخصصة في الجمعية الوطنية، وفي هيئة رئاسة المجلس وأمانته العامة، واتخاذ جميع الإجراءات اللازمة لتوطيد وتطوير العلاقات مع القطاعات الشعبية المختلفة ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات الجماهيرية والاتحادات النقابية والمهنية وتفعيل أدوارها في المجتمع.

رابعا- على المستوى السياسي في النطاق الوطني والإقليمي والدولي:
تكثيف الجهود لإنجاز الحوار الوطني الداخلي والخارجي مع المكونات والشخصيات الجنوبية دون استثناء أو إقصاء أحد لضمان قيام اصطفاف وطني جنوبي شامل لتمثيل الجنوب في المفاوضات القادمة لإنهاء الحرب وإحلال السلام، وتوطيد وتطوير أواصر العلاقات مع دول الإقليم والعالم عبر القنوات الدبلوماسية وتكثيف الجهود في المحافل والمنظمات الدولية بما يخدم قضية الجنوب وتحقيق أهداف وتطلعات شعب الجنوب في إعادة بناء دولته الوطنية المستقلة.

ونستمد من الله سبحانه وتعالى الهِداية والتوفيق وهو حسبنا ونِعم الوكيل، اللهم إني بلغت اللهم فأشهد.

نائب رئيس المحكمة العليا للجمهورية اليمنية وعضو لجنة صياغة الدستور الاتحادي
*رئيس المحكمة العليا لجمهورية اليمن الديمقراطية (سابقا)

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى