الحوار ومهمة إرجاع السياسة إلى مدارات الحق الوطني لشعب الجنوب

> أولا: السياسة على مدى خمسين العام الماضية انفصلت عن ثوابت الحق الوطني للشعب، وسلكت طريقا ساد فيه طغيان الأيديولوجيا التي لا تعترف بأي حدود، فاضعف، بالنتيجة، الهوية الوطنية المستقلة لشعب الجنوب، وأفقدته سيادته على أرضه وحقه في تقرير مصيره. وهي الأبعاد الثلاثة لقضية شعب الجنوب. إن ذلك يعني أنه بخروج السياسة عن مدارات الحق الوطني وتفريطها بثوابته قد سارت في الاتجاه المضاد لإرادة الشعب، وكانت النتيجة خسران الشعب كامل حقوقه الوطنية، فوجد نفسه يتصرف تصرفا الغريب في وطنه، وعمت الصدمة أوساط المجتمع الجنوبي.

ثانيا: الصدمة أنتجت صحوة عامة، بدأت بحوار شمل كل الشخصيات وكل مكونات المجتمع المدني والملتقيات الجنوبية، تركز على إصلاح ما خربته السياسة، وإدراك الجنوبيون أن ذلك ينبغي أن يتدرج حسب الآتي:
1- إزالة الأسباب التي قادت إلى فقدان الشعب لثوابته الوطنية، التي في معظمها وقوع الجنوبيين في حبال التيارات الأيديولوجية المتصارعة التي ساعدت على تفكيك وحدته الداخلية وإضعافه والانقضاض عليه.

2- ومفتاح البدء في إزالة الأسباب يبدأ باتخاذ الخطوة العملاقة "التسامح والتصالح".

3- بفعل خطوة التسامح والتصالح تم التغلب على آثار صراعات الماضي واستعادة الوحدة الوطنية لشعب الجنوب.

4- التسامح والوحدة الوطنية بين أبناء شعب الجنوب أعادت الروح إلى الجسد الجنوبي، فأنطلق الحراك الشعبي الجنوبي بمرحلته السلمية الذي أعاد فيها الشعب تشكيل وعيه للذاتية الوطنية، وبات على وعي تام بهويته الوطنية المستقلة، وأنه ليس شطرا من شعب آخر ولا فرعا من أصل. وبات على وعي أيضا أنه، بوصفه شعبا بهوية وطنية مستقلة، له حق سيادة على أرض محددة بحدود دولية معترف بها، وله حق تقرير المصير.

5- شكلت ثلاثية ثوابت الحق الوطني عناصر الإرادة الوطنية لشعب الجنوب. وعلى ثنائية الوعي والإرادة الجديدتين التي تشكلت لدى كل الجنوبيين، حدد الحراك الشعبي الجنوبي أهدافه الوطنية الكبرى باستعادة دولة الجنوب الوطنية المستقلة بحدودها الدولية المعترف بها قبل مايو 1990م، وحدد الأهداف المتفرعة عن هذا الهدف الكبير بثلاثية استعادة الهوية والسيادة وحق تقرير المصير.

6 - تم في سنوات الحراك السلمي حشد الشعب وتعزيز وحدته الوطنية وترسيخ التسامح والتصالح وتهيئة كل أسباب التحول من الحراك السلمي إلى المقاومة المسلحة، وجاءت حرب 2015م والجنوب جاهز للمواجهة العسكرية وتحرير أراضي الدولة الجنوبية وكان الانتصار العسكري الذي تحقق في 2015م ثمرة لكل ذلك.

ثالثا: بالرغم من النجاح المذهل الذي حققه التسامح والتصالح والحراك الشعبي الجنوبي وتهيئة الشعب للمعركة الفاصلة، إلا أنه كان يجري بموازاة ذلك صراع بين السياسة القديمة، ومكوناتها غير المتناغمة مع إرادة الشعب من جهة وتطلعات شعب الجنوب إلى صياغة سياسة جديدة وصرح سياسي جديد تتناغم توجهاته مع الإرادة الوطنية لشعب الجنوب وتعبر عنها من جهة ثانية:

1- الكل تابع المحاولات العديدة التي رمت إلى صياغة سياسة جديدة، منها المحاولات التي جرت داخل الحراك الجنوبي، انتقل بنتيجتها الحراك الشعبي السلمي من حراك موحد إلى حراك متعدد المكونات، ثم محاولات المؤتمر الجنوبي الأول في القاهرة الذي خرج بتوجهات ورؤى لا تلبي بالكامل الإرادة الوطنية للشعب، ثم ما لبث أن انقسم على نفسه، فجاءت بعده محاولة المؤتمر الوطني لشعب الجنوب الذي بني على تحالفات سياسية طغت عليها التكتيكات غير محكومة باستراتيجيات عليا، فظهرت خلافاتها القوية في مؤتمر حوار صنعاء الذي قاطعته معظم مكونات الحراك الجنوبي الأخرى مثلما قاطع عدد منها قبلها المؤتمر الجنوبي الأول في القاهرة.

2 - مجموع هذه المحاولات بينت للجميع ضرورة الانتقال في مسار البحث عن السياسة الجديدة المتناغمة مع إرادة الشعب من أروقة السياسات السابقة ومكوناتها إلى الشعب بمكوناته الجغرافية والإدارية والمجتمع المدني بكل قطاعاته الوظيفية.

رابعا: بعد كل هذه المحاولات والانتصار الجنوبي في 2015م تم اعتماد خيار العودة للشعب ومكوناته فهناك إرادة شعبية موحدة ستساعد حتما على صياغة سياسة وإرادة سياسية موحدة تتناغم مع إرادة الشعب الموحدة:

1 - بعد حوار مطول شمل معظم شخصيات المجتمع المدني والشخصيات العامة وكل ممثلي النخب الفكرية والأساتذة الجامعيين، تم بنتيجته هذا الحوار صياغة جوهر السياسة الجديدة المعبرة عن أهداف الشعب وإرادته، وتم تشكيل المجلس الانتقالي الجنوبي واختيار قيادة سياسية وطنية جديدة للمجلس اكتسبت مشروعيتها بمليونية التفويض الشعبي في 4 مايو 2017م.

2 - ظهرت إفرازات هذا التصادم السياسي في محورين:

- السياسة الجديدة المتناغمة مع الإرادة الوطنية لشعب الجنوب يمثلها المجلس الانتقالي الجنوبي، وتطرح هدفا واضحا لا لبس فيه هو العمل من أجل استعادة دولة الجنوب الوطنية المستقلة بحدودها الدولية المعترف بها قبل عام 1990م.

- مجموعتان سياسيتان ما زال ما تطرحانه بعيدا عن التناغم مع إرادة الشعب، إذ لا زالتا تدوران في أروقة السياسة القديمة، وإن اختلفت في شكلها، فهما تدوران حول إصلاح الوحدة اليمنية باعتماد الشكل الفيدرالي. والخلاف بين المجموعتين حول عدد أقاليم الدولة، بعض يراها اثنين وآخر يراها ثلاثة أو أربعة وثالث يراها ستة أقاليم. وهي جميعها ليس لها أساس واقعي، واتجاهات سبق تجريبها، وكانت سببا في تفجير حرب 1994م، وحرب 2015م.

3- التصادم بين الإرادتين السياسيتين القديمة والجديدة بأهدافهما المختلفة، فتح نافذة لتدخلات غير في الشأن الجنوبي، وتكريس التحكم في توحيه حركة الجنوبيين سياسيا وعسكريا وأمنيا واقتصاديا، الأمر الذي كان له تأثير كبير على إيقاع وسرعة التحرك والفعل الجنوبيين، حيث خلق عوائق وعراقيل أبطأت الحركة صوب تحقيق الأهداف الوطنية الكبرى لشعب الجنوب. فتهيأت بفعل ذلك الأرضية لفتح حروب جانبية جديدة مثل حرب الخدمات، واتساع نسبة العمليات المخلة بالأمن على امتداد الساحة الجنوبية وانتشار الفساد ودعم كل أسباب الفتن والصراعات بين الجنوبيين، وساهم كل ذلك في تدفق أعداد هائلة من النازحين الشماليين وانتشارهم في عدن والمدن الجنوبية الأخرى وتدفق أعداد هائلة من المهاجرين غير الشرعيين القادمين من الحبشة، فخلق كل ذلك مشكلات اجتماعية وأمنية وخدمية، زادت الأوضاع في الجنوب تعقيدا.

خامسا: لكل هذه الاعتبارات ومن أجل منع الصراعات والفتن بين أبناء الجنوب ومن أجل تعزيز الوحدة الوطنية بين أبناء الجنوب والارتقاء إلى مستوى القدرة على مواجهة التحديات والأخطار التي تحيط بشعب الجنوب وقضيته، رأى المجلس الانتقالي الجنوبي أن هناك حاجة لإطلاق حوار جنوبي للوقوف على هذه المشكلات تتحدد أهدافه بالآتي:

1- جعل السياسة والمشتغلين في حقل السياسة لدى شعب الجنوب متناغمة مع الإرادة الوطنية العامة لشعب الجنوب وتعبر عن أهدافه وطموحاته.

2- وطبقا لذلك الإقرار بأن الهدف العام الذي يجتمع عليه الجنوبيون هو استعادة الدولة الوطنية المستقلة الكاملة السيادة لشعب الجنوب بحدودها الدولية المعترف بها قبل مايو 1990م، واستكمال تحرير أراضيها وبسط السيادة عليها.

3- الهدف الثاني الذي يجتمع عليه الجنوبيون هو بناء دولتهم القادمة على أساس اتحادي فيدرالي تقوم على التوازن الداخلي بين مكوناتها الجغرافية والإدارية، وتشمل معادلة التوازن الوطني بين مكونات الدولة كل هياكل البناء المؤسسي للدولة الاقتصادية والاجتماعية وبناء المؤسستين العسكرية والأمنية، وكل هياكل البناء السياسي للدولة، ويجسد كل ذلك في دستور دائم للدولة يكون بمثابة العقد الاجتماعي والقانون العام الذي تسري قواعده وأحكامه على كل مكونات الدولة الجغرافية والإدارية وكل قطاعاتها الوظيفية ومواطنيها.

سادسا: وواضح أن مواضيع الهوية والسيادة وتقرير المصير التي تمثل فروع تتفرع من الهدف الأصل والاسمى المتمثل بهدف استعادة الدولة الوطنية المستقلة لشعب الجنوب، وهدف إعادة البناء الوطني للدولة، وإنشاء دستورها وإدارة تبقى كما هي بلا تعديل تخص الشعب كله بكل مكوناته الجغرافية والإدارية، وتخص أيضا المكونات الوظيفية في كل قطاعات الدولة (المجتمع المدني)، ومن ثم فهذه المكونات والقطاعات هي المعنية بالحوار الوطني حيث لا يجوز حزبته الحوار وتشخصنه.

القضايا المطروحة للحوار ذو طبيعة وطنية كبرى وينبغي أن يتصدى لها الشعب بكل مكوناته وقطاعاته. ونرى أن على الفريق الوطني للحوار المشكل من المجلس الانتقالي الجنوبي أن يمتلك خارطة إجرائية تفصيلية لإجراء الحوار وأن يتم التركيز على:

1 - الحفاظ على ما تحقق واستكمال تحرير الأرض وبسط السيادة عليها والتوافق على مواجهة وإفشال كل التحديات والأخطار المحدقة بالجنوب وقضيته الوطنية الكبرى.

2 - بناء الدولة وإنجاز دستورها وإدارتها.

3- وضع الاتجاهات العامة لبناء وتطوير الجنوب الجديد (علم وتنمية شاملة وحرية).

* أستاذ الفلسفة السياسية المساعد جامعة عدن.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى