​وعي شعب الجنوب لذاته الوطنية وعي للهوية والحق والعلاقات الحقوقية داخليا وخارجيا

>
خلق الله الأرض وسخّر كل ما فيها من أسباب الوجود والبقاء للإنسانية كلها، وهي بذلك حق عام للكل الإنساني، وحتى لا تتحول نعمة الأرض وكل ما فيها من أسباب الحياة إلى نقمة وسبب من أسباب الصراع والحرب بين البشر، تم تقسيم هذا الحق العام إلى حقوق خاصة بين الشعوب، قال تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير". (سورة الحجرات آية 13).

ففي المسار العام للتاريخ الإنساني، وفي مجرى تدافع البشر وتنافسهم على حيازة الأرض، شهد التاريخ عمليات التعاون والتحالف بين التجمعات البشرية، فتشكلت الشعوب، وتم اقتسام أقاليم الأرض بينها وتحديد وتعين الحق الخاص بكل شعب.
     والمقصود من قوله تعالى: "وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" أن التحديد الشعوبي للبشر يترتب عليه تحديد وتعيين الحقوق بالأرض لكل شعب، والالتزام بهذه الأوامر الإلهية هو التقوى بذاته وامتثال لطاعته "إن أكرمكم عند الله اتقاكم"، فالله جل وعلا خلق الناس وضمن لهم أسباب وجودهم ودوام استمرار بقائهم بكل أجيالهم المتعاقبة ما بقيت الحياة على الأرض.

    وفي هذا الخطاب الإلهي الموجه للبشر يكمن الأساس العميق لتحديدات الحق والعلاقات الحقوقية الداخلية القائمة على التساوي بين أفراد الشعب وعلاقات الشعب الحقوقية الخارجية مع الشعوب الأخرى، والالتزام بهذا التحديد الإلهي الذي لا يجوز لنا نحن البشر إلغاءه أو تعديله فهذه سنة الخالق، ولن تجد لسنة الله تبديلا. فهو أمر قال به الخالق عز وجل وأفضى إليه التاريخ الإنساني، و أقرته وشرعته القوانين الوضعية التي تحكم العلاقات الدولية حين شرعت الشعوب والاعتراف بها والإقرار بسيادة كل شعب على أرضه، واعتبار السيادة حق غير قابل للتصرف، فهي حق لا يرتبط بجيل بعينه، بل حق للأجيال المتعاقبة، كان حق للأجداد والآباء من بعدهم، وصار حق لنا نحن جيل الحاضر، وسيبقى حق للأبناء والأحفاد ما بقيت الحياة على الأرض. لذلك فهو حق لا تلغيه أخطاء السياسة، فالسياسة تابعة للحق وتتحرك بحاكميته، ولا مشروعية لأي خطوة تخطوها السياسة لا تجسد الحق وتعبر عن مصالح أصحابه.

     وليكتمل وعي الشعب لذاته الوطنية ينبغي فهم حقيقة أن للحق المحدد بعدان: بعد نوعي وبعد كمي، فالبعد النوعي تعبر عنه حاجة وجود وبقاء الناس، فيما يعبر البعد الكمي عن القوة القادرة على تلبية احتياجات وجود الناس وبقائهم وتحقيق ذلك يعد إحقاقا للحق وبلوغ العدالة. وبهذا الفهم نجد مفتاحا لفهم العلاقة بين مفهومي الشعب والقبائل كما ورد في النص القرآني.

لقد جعل الله لهذا العالم تنظيما بنائيا محكوما بتوازن أفقي ورأسي، داخلي وخارجي يحفظ له أسباب الوجود والبقاء، واصطفى الإنسان بين المخلوقات ليحتل موقعه في أعلى الهرم، ليس ذلك فحسب، بل جعل للإنسانية بنيانها الخاص بها، حلقاته الشعوب والأمم في بعده الخارجي(الوجودي)، وبناء داخلي يقوم على التوازن الوظيفي بين مكوناته الداخلية (البناء الخاص بآليات البقاء) الذي أخذ في النص القرآني مسمى القبائل.

وبما أن الخطاب القرآني يتحدث عن البناء الإنساني بشقيه الوجودي والوظيفي، فمفهوم الشعب يعبر عن البعد الوجودي لمكونات التنوع الإنساني، فيما يعبر مفهوم القبائل عن البعد الوظيفي لهذا الوجود. وعليه فمفهوم القبائل في النص القرآني ليس مفهوم سلالي عرقي كما هو شايع في استخدامات عامة الناس، لكنه مفهوم يمكن فهم المعاني والمقاصد التي يحملها من خلال فهم علاقة المفهوم بمفاهيم الحق، والقوة، والعدالة، والأوعية المفهومية الحاملة لهذه المفاهيم الثلاثة، وهي الشعب والقبائل الولاية. فالشعب مفهوم نوعي يمثل لحظة التنوع في البناء الإنساني، وهو تعبير عن حق محدد في أرض محددة لتكتل بشري محدد،  فيما القبائل مفهوم وظيفي تعددي تعمل مكوناته بآلية التقابل والتكامل بغية إنتاج القوة اللازمة لتلبية الاحتياجات المتعددة لحق الوجود والبقاء لشعب محدد باجياله المتعاقبة، أما المفهوم الثالث فهوه مفهوم العدالة الحامل له مفهوم الولاية أو الحوكمة (السلطة) الحلقة المعنية بضبط العلاقة بين الحق والقوة وحامليهما الشعب والقبائل.

 مفهوم الشعب من المفاهيم الأصلية التي يتأسس عليها كامل البناء الإنساني وبه ارتبط تحديد الحق والعلاقات الحقوقية بين البشر والأرض من جهة، و بين البشر ببعضهم من جهة أخرى. وموقعه المتوسط في الآية القرآنية يبين أن مفهوم الشعب يجمع بين الجانب النوعي الوجودي الذي جاء  بوصفه ثمرة للتنوع الجنسي القائم على التقابل والتكامل بين الذكر والأنثى- ينبوع الضخ البشري المعني بتأمين تشكل الشعوب وضمان استمرارها، وبين الجانب الوظيفي التعددي المرتبط بتعدد الاحتياجات اللازمة لتأمين البقاء المجسّد في مفهوم القبائل.

 على هذا النحو يتبين أن للشعب تنظيم طبيعي نوعي يتشكل من التنوع الجنسي (الذكر والأنثى) والتنوع في الفئات العمرية، يضاف لها عنصر الأرض المحددة التي تمثل الحق الو جودي الثابت لهذا الشعب، هذا البناء يمكن أن نطلق عليه مسمى البنية الوجودية للشعب، وهي بنية تعني بتأمين استمرار وجوده،  وله تنظيم بنيوي وظيفي تعددي داخلي يعنى بتأمين تعدد احتياجات البقاء.

 الطبيعة التعددية للبنية الوظيفية الداخلية للشعب التي أخذت مسمى القبائل في النص القرآني تفرضها طبيعة تعدد احتياجات البقاء وهو التنظيم الذي بات يعرف اليوم بالتنظيم الاجتماعي المدني الذي يضم في بنيته كل القطاعات الوظيفية للمجتمع المحكومة بعلاقات التقابل والتكامل في فعلها الوظيفي المكرس لإنتاج القوة اللازمة لتلبية احتياجات البقاء.

 يستخلص من كل ذلك أننا أمام مجموعة من الثنائيات تعمل بآليه علاقات التقابل والتكامل ينتج عنه تشكل التنظيم للمجتمع الإنساني الثلاث (الأسرة، الشعب،
 التنظيم الاجتماعي المدني)( القبائل).
 فعلاقة ثنائية الذكر والأنثى ثمرته الأسرة، وعلاقة الإنسان بالأرض ثمرته الشعب، الحلقة المسؤولة عن حفظ الوجود البشري،  فيما العلاقة بين الحاجة والوظيفة ثمرتها تنظيم القبائل (التنظيم الاجتماعي المدني) وهي الحلقة المعنية بإنتاج القوة اللازمة للبقاء الإنساني.
يدعم المنحى الذي سار عليه تناولنا لمفهوم القبائل في النص القرآني المعنى اللغوي لكلمة قبائل كما تناولته الموسوعات والقواميس اللغوية العربية:
في قاموس المعاني مادة قبائل ورد الاتي:
1 - "قبائل الرأس" قطع في الرأس متصل بعضها ببعضها الآخر.
2 - "قبائل الطير" أصنافه.
3 - "قبائل الشجرة " أغصانها.
 بما يعنيه كل ذلك من حضور واضح لآليات التوازن والتكامل في معنى القبائل المكرس لوظيفة حفظ البقاء.
4 - وهناك معنى رابع مفاده أن القبيلة "كائن اجتماعي اقتصادي سياسي يضم عائلات تجمع بينها روابط القربى وتخضع لرئيس واحد،  وقد عرف نظام القبيلة عند بعض الشعوب قديما، خاصة بين البدو.

في هذا المعنى الرابع الذي يضعه قاموس المعاني، نجد تفسيرا واضحا لخروج مفهوم "القبائل" عن معناه الأصلي واكتسابه معنى لا صلة له بالمعنى الحقيقي المنصوص عليه في النص القرآني.
 إن استمرار زمن البداوة عند بعض الجماعات وبقائها بعيدا عن الانصهار في تيار التطور والمدنية، ترتب على ذلك بقاء هذه الجماعات البشرية منعزلة عن بعضها وظل التزاوج داخل الجماعة، وممارسة وظيفة بدائية واحدة (الزراعة والرعي) داخل حدود جغرافية محددة تسخر لخدمة الجماعة ذاتها ولا تدخل في تعاون وتكامل مع الجماعات الأخرى.

 على هذا النحو، فإن العزلة السلالية مضاف إليها العزلة الوظيفية أكسب هذه الجماعات مع مرور الوقت المعنى السلالي العرقي وتشكيل ما يمكن تسميته "الحدود القبلية" داخل حدود الشعب الذي تعتبر هذه الجماعات جزء منه، الأمر الذي أعاق عملية الاندماج الوطني، وترسيخ الهوية الوطنية، ومن ثم تتحول هذه الجماعات إلى عامل معيق للتكوين السياسي وتحول الشعب إلى دولة.

بغياب التطور الاقتصادي غابت أسباب الاندماج الاجتماعي، وقسمت الطريق لمسارات اجتماعية منعزلة عن بعضها، فظهرت المفاهيم المغلوطة للقبيلة، وظهرت المناطقية وتغليب الانتماءات الصغرى لمناطق وعشائر معينة على حساب إضعاف الانتماء للشعب وهويته الوطنية والانتماء للمنطقة السيادية الواحدة والانتماء لسلطة الشعب ودولته الوطنية المستقلة.

   للمواطن هوية واحدة تقوم على عمودين: أسرية فهو ينتمي لأبوين محددين، وانتمائهم لشعب محدد وأرض محددة وتسقط ما عداها، كتلك التي تشير إلى مناطق جزئية داخل المنطقة السيادية أو إلى ما يسمى التحالفات القبلية أو إلى المذهبية السلالية. فالتمسك بهذه الانتماءات المزيفة مثله كمثل الذي يقطع جذع الشجرة ويريد الاحتفاظ بفروعها وأغصانها.

إن ذلك ينم أولا عن عدم فهم النص القرآني الذي يضع الانتماء للشعوب في المقدمة على أي انتماءات أخرى، ومن ثم فهو عمل مخالف لإرادة الله، ثم ثانيا ينم عن غياب وعي الذات الوطنية وضعف موقعها في الوعي الجمعي لأبناء الشعب ووجود مساحات أكبر في هذا الوعي للانتماءات الصغرى. إن لهذه الظواهر تداعيات خطيرة على الوحدة الوطنية للشعب وإضعافه، وضياع الهوية وتعريض منطقته السيادية لخطر الغزو والعدوان من قبل الغير، وحينها لا تجرؤ الانتماءات الصغرى ولا ترقى إلى مستوى الدفاع عن نفسها، فتضيع الهوية الوطنية للشعب وتضيع السيادة على الأرض وتضيع معها كل الانتماءات الجزئية.

* أستاذ الفلسفة السياسية المساعد- كلية الآداب- جامعة عدن.
خاص بـ"الأيام"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى