عملت بالصحافة اليمنية.. فنانة عراقية كبيرة تطلق أيقونات بنظرات غامضة لمجابهة الألم

> مصطفى عبيد - العرب

>
​بدأت عفيفة لعيبي، المولودة عام 1953 بمدينة البصرة، رحلتها مع الفن من العاصمة العراقية بغداد، حيث درست بمعهد الفنون الجميلة في بغداد، لتنطلق فيما بعد في رحلات لن تنتهي إلى اليوم، رحلات كان لها بالغ الأثر في تكوينها وأعمالها الفنية، فقد انتقلت في بداياتها إلى العاصمة الروسية موسكو لدراسة الفن الجداري، وبعد عشر سنوات قضتها في روسيا، حطت رحالها في إيطاليا لمواصلة الدراسة، ثم عملت في الصحافة اليمنية، قبل أن تستقر فيما بعد في هولندا. آثار هذه الرحلات نتبينها في أعمال الفنانة في معرضها المصري الأول.

ويرسم الفن مشاعرنا الإنسانية. تتكلم الألوان والصور والإبداعات. صحيح بصوت خفيض، لكنه قوي ومؤثر ومنطبع على الذاكرة الجمعية للشعوب، وكأنه ختم حياة. وحديث الفن خالد، فاللوحات تُلمّح وتُصرّح وتغمز وتوجه وتُشير وتُدين وتُؤيد وتُبشر وتفعل كل شيء ضروري لدفع الحياة إلى الأجمل.

نظرات غامضة تثير الشجن
نظرات غامضة تثير الشجن

ظهر ذلك جليا في معرض الفنانة العراقية عفيفة لعيبي الذي استضافته القاهرة تحت عنوان “محطات الغربة” مؤخرا، حيث سرد المعرض شعورا طاغيا وسائدا تتسع ضفافه بين الشعوب العربية بعد انتفاضات وثورات الشعوب، وما تبعها من صراعات وحروب موجعة شهدتها بعض الدول العربية في العشرية الماضية.

بدت لوحات الفنانة العراقية لافتة ومثيرة للشجن، وهي تقدم أيقونات تغلب عليها وجوه النساء الحزينات، الشاعرات بحنين وشوق لديار وذكريات فائتة، وأثارت النظرات الغامضة للشخوص شجنا جاء ممتزجا باغتراب دائم لا يغادرها.

  • سردية الاغتراب

 تقول عفيفة لعيبي في لقاء خاص مع “العرب” إن الشعور بالغربة دائم وساكن في ذاتها منذ خمسة وأربعين عاما، وهي تنتقل من منفى إلى منفى بعيدا عن بلادها.

وتعترف التشكيلية العراقية بأنها عاشت في أربع دول مختلفة، ووجدت في كل منها أصدقاء وأحباء وأهلا ومحيطا اجتماعيا وثقافيا وفنيا حاضنا، لكن لم تجد في أي منها وطنا، لأنه في تصورها شيء آخر، والشعور به يختلف عن الشعور بأي مكان تستطيبه النفس وتأنس إليه.

وترى أن الاغتراب صار حالة عامة تسيطر عليها، وسمة ثابتة لا تغادرها، حتى لو كانت في العراق نفسه، بلدها الأم، لأن مراحل الخراب والتخريب التي يعاني منها منذ عقود جعلتها تحس بالغربة عندما تزوره، حيث صارت قدرا وليس هناك فكاك من الغربة أبدا.

تؤكد الفنانة العراقية أن كافة أعمالها نتاج طبيعي لسنوات الغربة والتنقل والارتحال من بلد إلى بلد، ومن ثقافة إلى ثقافة مغايرة، ورغم سلبيات ذلك كانت له مردودات إيجابية عميقة تتمثل في تطور الأفكار وتنوعها وزخم الثقافات وتأثيرها على موضوعاتها الفنية.

وتوضح لعيبي لـ”العرب” أنها أول مرة تعرض أعمالها في القاهرة وأول زيارة لها، وهي تشعر أن مصر مازالت تمثل مركزا ثقافيا وفنيا وسياسيا للعالم العربي، وهي الأقدر والأنسب على لعب دور حقيقي في إعادة الاستقرار للمنطقة العربية بعد سنوات من التيه.

وتشير إلى أنها لمست في اهتمام واحتفاء المجتمع الثقافي والفني في القاهرة بمعرضها الأحدث، قوة حقيقية للحركة الثقافية والإبداعية في مصر، ما أكد إيمانها بقدرتها على التأثير بشكل فعال في الذاكرة الجمعية العربية.

وتلمس في الوقت ذاته وجود حركة فنية جيدة تضم أسماء جديدة في سماء الفن التشكيلي المصري، تحاول تقديم أساليب تجديدية لافتة وصناعة إبداعات مُعبرة عن جيل جديد من المبدعين.

لوحات لا تسعى إلى القصاص من الرجل
لوحات لا تسعى إلى القصاص من الرجل

 يرى البعض أن الحضور الطاغي للمرأة في لوحات الفنانة العراقية يعكس تماهيا ذاتيا مع الخطاب النسوي الذي تتبناه فكريا، لكنها تبدي دهشتها من هذا التصور مؤكدة أن الفن متحرر من أي خطاب، ولا تستهدف بإبداعاتها طروحات سياسية أو غير سياسية، ولا يوجد في خيالها قصد للقصاص من الرجل أو ما شابه.

تقول لعيبي لـ”العرب” إن الكثير من الكتاب والمتابعين للحركة الفنية يستسهلون الأخذ بانطباعات وأحكام نهائية لبعض النقاد دون تدقيق أو تدبر، وهو ما يؤدي في النهاية إلى سيادة الكثير من الأحكام الخاطئة على بعض المبدعين والفنانين، وإحدى كبرى مشكلاتنا في العالم العربي أن الكثير من العاملين في مجال الإعلام يرددون أقوال الآخرين دون بحث أو نظر.

في تصورها أن الفن بشكل عام، والفن التشكيلي بشكل خاص، نتاج موهبة حقيقية تولد مع الإنسان، يصعب أن تنمو وتتطور دون علم وتعلم متواصل وجهد كثيف واجتهاد دائم، لأن الفنان في حاجة مستمرة لتطوير أدواته وممارسة التجريب والتجديد، وهو ما لا يتحقق دون تعلم.

تتسم معروضات معرض “محطات الغربة” الذي أقيم في جاليري بيكاسو بالزمالك، وسط القاهرة، ببساطة وتلقائية تجعل الشخوص أكثر تحررا في حركتهم وملامحهم إلى درجة العبوس، كأن نظراتهم الغامضة توحي بأكثر من معنى في آن واحد،  فمثلا في لوحة “امرأة حرة” تبدو الفنانة نفسها كأنها تسبح في الفضاء بملابس بيضاء صافية خالية من أي زخارف، ولها أجنحة تجعلها شبيهة بالملائكة.

وفي لوحة “حقل العنب” تبدو لعيبي بوجهها الرائق ونظرتها الغامضة تفكر في ذكريات غائبة وجميلة، وهي تمسك بأصابعها عنقود العنب في رضا ورقة.

وتستمر نظرة التذكر الغامضة مرتسمة على وجه المرأة الظاهرة في لوحة “صاحبة القبعة الأفريقية”، كأنها تؤكد أن فكرة التذكر والحنين المسكونة في مشاعر الاغتراب تنتقل مع صاحبتها حتى لو ذهبت إلى أفريقيا بعيدا عن قارتها الأم.

  • سر الأصفر والأخضر

رسمت عفيفة لعيبي لوحة تمثل بورتوريها شخصيا بفستان أبيض يعبّر عن البساطة والصفاء والبراءة المستوطنة في وجه نساء العرب، كأنها ثيمة راسخة من ثيمات رسوم النساء لدى الفنانة العراقية.

يغلب اللونان الأصفر والأخضر على الكثير من لوحات لعيبي، وهو ما لاحظه الكثير من النقاد، وقالت هي عن ذلك إنها تحب اللونين لأنهما يضفيان بعض السرور على أجواء اللوحة ويسهمان في إيصال الفكرة المراد توصيلها، خاصة أنها تعتبر الضوء الحاضر الدائم في لوحاتها وكل شيء آخر يبدو ثانويا، بما فيه الشخوص المتواجدون أنفسهم.

لم تقتصر إبداعات معرض “محطات الغربة” على النساء الحالمات ذوات النظرات البريئة الغامضة، فالأطفال يحضرون مثلما هو الحال في لوحة “حصاني الخشبي”، ويظهر فيها طفل جالس على حصان خشبي وخلفه أشجار نضرة تعبّر عن الطبيعة الساحرة.

تؤكد الفنانة في حوارها مع “العرب” أنها تتابع من خلال وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي حركة الفن العربي وغير العربي، وتطلع على إبداعات الأجيال الجديدة من الفنانين، وشهدت في السنوات الماضية اهتماما جديا من قبل البعض على اقتناء اللوحات الفنية للفنانين العرب بعد إنشاء متاحف فنية في دول الخليج.


وترى أن ذلك يؤكد أن هناك تحركا حقيقيا من قبل الجهات المسؤولة في بعض هذه الدول للعناية بالتراث الفني والثقافي المنتج في منطقة الشرق الأوسط، والذي سيشكل بالضرورة ذاكرة مهمة وذات قيمة لا تقدر بثمن للأجيال القادمة.

وتضيف قائلة “هذا مهم لمن يريد أن يتعرف على ثقافتنا وعلى تراثنا وعلى الأسماء المهمة التي قدمت الكثير في التأسيس للثقافة الحرة والتقدمية والإنسانية، فكل هذا سوف يرفع قيمة الفن ويعظم دوره في تنمية الذائقة الإبداعية والمساهمة في رقي المجتمع وتحضره”.

وذكرت أن المجتمعات العربية في حاجة إلى مساندة الفن وتشجيعه ودعمه والانفتاح عليه بشكل فعال، وكان لعائلتها المحبة للفن دور في تطوير قدراتها ونجاحها الفني.

وتعد عفيفة لعيبي واحدة من أهم الفنانات العراقيات، ولدت في مدينة البصرة، بجنوب شرق بغداد، وتخرجت من معهد الفنون الجميلة في ببغداد، وعملت في الصحافة العراقية، ثم غادرت البلاد عام 1974 إلى الاتحاد السوفيتي حينذاك، ودرست في أكاديمية سوريكوف للفنون الجميلة بموسكو، ثم سافرت إلى إيطاليا ومنها إلى اليمن لتعمل رسامة في الصحافة لسنوات، ثم شاركت في عدة معارض فنية في كل من سوريا ولبنان وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة.

وقد استقرت مؤخرا في هولندا وهناك أقامت مجموعة من المعارض، أبرزها معرضها الشخصي الشامل في متحف “ايكاترينا خاست موزيم” في مدينة خاودا.

وتقيم بشكل دوري وثابت معارضها الشخصية في قاعة “دي تفيي باون” في لاهاي، ولها مساهمات دورية في قاعات أخرى، مثل “كالري كودا” في أمستردام وكالري “بريما فيسته” في ماسترخت.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى