الجنوب المحاصر إلى أين؟

>
قاسم العفيف
قاسم العفيف
المنطقة ما زالت تسير على شفير الهاوية منذ انتهاء الحرب الباردة وانفراد أمريكا لقيادة العالم، حيث قررت أن تنفذ سياسات تتخطى الثوابت في التحالفات الموثقة، وفي العلاقات الثنائية، وأصبحت تمارس أجندات غريبة تومئ لهذا وتشير على ذاك وتوعد هذاك على شيء مجهول وكلها إشارات على أنه ضوء أخضر من قبلها، ولكن ما أن تبدء العجلة تدور سرعان ما تقلب على الجميع وتضعهم كش ملك كما حدث في العراق وغيرها من البلدان في الشرق الأوسط، حتى أصبح حلفاءها التقليدين في حيرة من أمرهم في التعامل مع الدولة التي أصبحت سيدة العالم.

جاءت إلى العراق بهدف تحقيق الديمقراطية فإذا بها تنسف الديمقراطية في أول امتحان، حيث اصطفت مع مرشح قاسم سليماني (المالكي) ضد علاوي الذي كسب الانتخابات استرضاء لإيران، وبهذا سلمت الجمل بما حمل وخلقت نظاما طائفيًا أصبح شوكة في قلب العالم العربي.

في الربيع العربي وقفت مع الإسلام السياسي المتمثل بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وتخلت عن رفقاء عمرها حلفائها التقليديين في المنطقة، وأما في اليمن فقد شجعت استيلاء الحوثيين عل السلطة ودفعت بهم نحو الجنوب لاحتلال عدن لصالح المشروع الإيراني، وخلال فترة الحرب كانت تسارع لإنقاذهم وكانت الحديدة مثالًا على ذلك.

هل ما يجري من عقاب جماعي لشعب الجنوب هو بسبب مقاومته للغزو الإيراني وهزيمته على شواطئ عدن؟ لكن لماذا تنفذ هذه العقوبات عبر أدوات الشرعية وهل هناك أياد خفية تلعب من الخلف؟ ولماذا لم يتنبه التحالف بأن ذلك سيضر بسمعته وبمصالحه الاستراتيجية عبر سكوته لما يجري من حصار وتجويع وفساد يتم نهارًا جهارًا في المناطق المحررة؟ وما هي مصلحة التحالف في تجويع وحصار شعب الجنوب الذي أهداهم النصر في هزيمة المشروع الإيراني مرتين الأولى في عدن والثانية في شبوة وقبلها سارت قوافل التحرير من عدن حتى مشارف الحديدة، وهل لكل تلك التضحيات التي قدمها شعب الجنوب كان لابد أن تكافئ بالجحود والنكران من قبل التحالف العربي الذي جاء لنصرة المشروع القومي العربي. لا أحد يجد تفسيرا حقيقيا لما يحدث هل ذلك غفلة أو كبوة حصان جامح أضاع البوصلة وأضاع النصر من بين يديه.

لم يكن ليتحقق النصر في الجنوب رافعًا راية الأمن القومي العربي إلا بوجود حاضنة عروبية لدى شعب الجنوب، وهذا الشعب كان يجب أن ينال حقه في التقدير والمكانة اللائقة التي يستحقها لا أن يحاصر ويجوع ويترك يبحث عن قوت يومه في القمامة، وهو شعب أبي ومقاوم أطاح بإمبراطورية لا تغيب عن ممتلكاتها الشمس، وقبلها أطاح بكل غازٍ ومعتدٍ من الدول الطامعة فيه والتي حاولت احتلاله.

الجنوب تحرر وكان يفترض أن يعطى له الاهتمام والرعاية بل أن تجري فيه تنمية وأمن واستقرار لكي يصبح أنموذجا لبقية المحافظات الأخرى التي لازالت تحت سيطرة الانقلابيين، وهذا أقل شيء يمكن أن تقدمه الشرعية والتحالف للموقف الشجاع لأبناء الجنوب الذين هبوا تلقائيًا لمقاومة الغزو الحوثعفاشي وتكلل ذلك بالنجاح وأهدى الجنوب بدماء أبنائه نصرًا للشرعية والتحالف.

مع الأسف سارت الأمور عكس المتوقع وكرست الشرعية جهدًا كبيرًا لتقويض ذلك الانتصار وجرت محاصرة الجنوب إلى درجة أن أصبح الوضع المعيشي كارثيًا ومع الأسف الكبير والحزن الشديد أن التحالف ظل متفرجًا على ما يجري من تقويض لانتصار الجنوب وكأن الأمر لا يعنيه بينما خسر التحالف إمكانيات هائلة في سبيل تحرير المحافظات الشمالية وذهبت تلك الإمكانيات أدراج الرياح ولم تستطع الشرعية أن تحرر محافظة واحدة متكاملة بينما كان للجنوبيين دور مشرف في تحرير أجزاء كبيرة من محافظة تعز على الساحل الغربي وصولًا حتى مشارف الحديدة وفي مكان آخر تم التصدي لقوات الانقلابيين على مشارف محافظة إب الشمالية ومازال أبناء القوات الجنوبية يضحون بدمائهم دفاعًا عن المشروع العربي بينما أهلهم وشعبهم لم ينالوا غير الإقصاء والتهميش والتجويع والحصار المحكم وبإشراف حكومة الشرعية وتحت إدارة الشرعية ذاتها وتحت نظر وبصر التحالف.

لا يوجد في العالم من يعبث بأدوات الانتصار غير هذه الشرعية وهي تستهين بدماء الجنوبيين الذين قاموا بتحرير أكثر من 85 % من الأرض جنوبًا وشمالًا، ولكن لم يكن العتب على هذه الشرعية لأنها نسخة من نظام صنعاء الذي غزا الجنوب في عام 94 م والذي لم يغير جلده فكل متاعب الجنوب في العقود الماضية أتت من هذه الشرعية، وأما التحالف الذي يدير العمليات القتالية وإدارة المعركة لم ينتبه بأنه يتحمل جزءًا كبيرًا من هذه المسؤولية.

شيء محزن أن تصل الأوضاع إلى الفشل التام في التصدي للانقلابيين في صنعاء والذين باتوا يهددون أمن السعودية ودول الخليج الأخرى، وعلى الرغم من التنازلات التي يقدمها التحالف لهم من أجل جلبهم إلى طاولة المفاوضات إلا أنهم بدلًا من التجاوب بإرسال موفدين إلى الرياض تم إرسال صواريخ ومسيرات بشكل مكثف إلى المنشآت والأعيان المدنية على أرض المملكة، وهذه رسائل غير مباشرة ترسلها إيران إلى المملكة عبر الانقلابيين تعني بوضوح بأن على التحالف أن يقدم المزيد من التنازلات.

مهما كانت المبررات فإن هناك فشل ذريع في إدارة المعركة من قبل التحالف، حيث اعتمد على القوى اليمنية الفاشلة، والتي همها جمع الثروات واستشراء الفساد بين أوساطها، وبدلًا من توجيه المعركة نحو الهدف صنعاء جرى تغيير البوصلة نحو الجنوب في معارك جانبية استنزفت التحالف تحت حجج واهية وغير منطقية.

ومهما كان الدعم الذي يتحصل عليه الحوثيون من قبل إيران وحلفائها في المنطقة لا يمكن أن تصل قوته إلى درجة أنه أصبح يفرض شروطه على التحالف إلا بسبب عاملين أساسيين: أولًا ضعف الشرعية وفسادها، وثانيًا خلل في إدارة المعركة خاصة والحوثي يقع في نطاق الحصار الكامل برًا وبحرًا وجوًا، ومن غير المعقول أن تلك القوى الانقلابية والتي لا تملك دفاعات جوية أو طيران مقاتل ولا قوات بحرية تصل قوتها إلى درجة تهديد السعودية مباشرة ودول الخليج الأخرى.

ومن أبرز مظاهر الفشل التالي:
ظهر الفشل في إدارة المعركة للعيان من أول يوم توالت فيها الانهيارات في الجيش الذي يسمى وطنيا، ولم تتخذ إجراءات لمعالجة الخلل ولا تم استبعاد من فشلوا من القادة؛ بل كان يتم ترقيتهم حتى أصبحوا هم من يسير إدارة الدولة الفاشلة.

ظهر الفشل عندما جرى معاقبة الجنوب المنتصر وبدلًا أن يوجه الحصار نحو الانقلابيين تم محاصرة شعب الجنوب بكامله حتى أصبح يعيش تحت خط الفقر.

ظهر الفشل مباشرة في حجز أكبر قوة عسكرية في محافظة حضرموت والمهرة دون إشراكها في تحرير صنعاء، وهناك من يتهمها بحماية قوافل إمداد الحوثي بالمعدات العسكرية القادمة من الشرق ووصولها إليه بشكل آمن إلى صنعاء.

ظهر الفشل عندما كانت تسلم جبهات للحوثي دون قتال ويستولي على المعسكرات مع أسلحتها وذخائرها وأرشيف قواتها ولم تتخذ أية إجراءات بحق الفاشلين.

ظهر الفشل في إعادة تدوير الفاسدين في المناصب القيادية للشرعية.

ظهر الفشل عندما سمح لما يسمى بالجيش الوطني بترك الجبهات وتوجيهه نحو اقتحام عدن.

أمام هذا الوضع يفترض أن تكون هناك خطوات جدية لمراجعة الحسابات الخاطئة قبل أن تذهب الأمور إلى ماّلات أخرى، ولن يقبل شعب الجنوب أن يظل أسيرًا لسياسات عقيمة أضاعت البوصلة، وذهبت تبحث عن سراب وتستجدي أعدائها عبر محاولات استرضائهم للقبول بأي حلول ترضيهم.

ومع كل ما حصل لم تجدِ كل العقوبات ولا الحصار مع شعب الجنوب، ولن يتنازل عن حقه في العيش الكريم الذي يصر على استعادة دولته التي يرى فيها حق مشروع ففي السلم أشعلها ثورة سلمية وفي الحرب امتطى الخطوب ليدك معاقل الغزاة قلعة بعد أخرى، ولهذا لن تستطيع أي قوة في العالم أن تثنيه أو تتحايل عليه أو ترغمه عن التنازل عن حقه في العيش الكريم، فمن مصلحة الجميع أن تعود الأمور إلى مجاريها ونعيش كدول متجاورة متعاونة.

تجاهل وضع الجنوب الحرج والصعب لن يزيد الأمر إلا اشتعالًا وأعتقد كما يعتقد الكثيرون بأن الاستمرار في هذه السياسة الخاطئة ستؤدي إلى كوارث سياسية ستشمل المنطقة بكاملها ولن تهدأ العواصف إلا بإرساء قواعد العدل والإنصاف لكل شعوب المنطقة لتنعم جميعًا بالأمن والاستقرار والتنمية والسلام.

تحليل خاص لل"الأيام".

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى