ثقافة التقديس في مجتمعنا اليمني

> مشكلتنا قائمة، كانت ومازالت معشر قومنا، أننّا نعاني من ضمور عقلي من ناحية الكلام، لا نعرف كيف نُحب ولا نعرف كيف نكره، لا نعرف متى نتحدث ولا متى نخرس، حكمةً عظيمة قالتها جدّتي رحمها اللّهُ وغفر لها، فئة منّا تقدّس (الأفراد، الأحزاب، المكونات) بلا هوادة، وبغير علم، وفئةٌ أخرى نحسبها مثقفة نوعًا ما وهي الطامة، تقدّس بفكر وعلم ممنهج، وفكرة التقديس هذه، ليست وليدة اللحظة، بل نجدها متأصلة ومتجّذرة ومتغلغلة في مجتمعنا، ولو عُدنا للتأريخ قليلًا، أيام حكم الأئِمة ومقولة الثلايا التي أراد من خلالها أن يعلَّمنا درسًا في الحياة، درسًا في الحرية، درسًا في الكرامة، درسًا في "أن للإنسان فردية لا يمكن تجاهلها أو إلغاؤها":

(لعنَ اللّهُ شعبًا أردتُ له الحياة، فأراد لي الموت).

الإعلامي الرائع محمد الربع، معروفٌ لدى المجتمع اليمني بنقده اللاذع والساخر للمكونات والأحزاب والأفراد المتقاعسة عن دورها الحقيقي في خدمة الشعب، حتى أن قناة الجزيرة (الإنجليزية) أنتجت عنه فلمًا وثائقيًا يتحدث عن دور برامجه الشهيرة في الثورة اليمنية 2011م. وعندما وصل نقده لرموز محسوبة على الإصلاح، قامت الدّنيا ولم تقعد.

خرج ثلَّةٌ ممّن حضروا الندوات والمحاضرات في جامعة الإيمان، ليُعيدوا على مسامعنا، مفردات التكفير والزندقة والعولمة ليس لأن الربع انتهج ذلك، إنمّا تقديس لمشايخهم الذين أفتوا فيما مضى بجواز قتل أكثرية اليمنيين ليعش أقليّتهم، هذا الحزب الذي يتفوه بكلام الميلشيات تسّلم السلطة بعد ثورة فبراير 2011م، فبدلًا من أن يلتفت لإصلاح وترميم ما دمرته الثورة في النسيج الاجتماعي، راح يبحث عن أعداء ليواصل مسيرته القائمة على استحواذ كل مفاصل الدولة، راح ليقصي مدراء العموم المؤتمريون من مناصبهم! لماذا ؟ فقط لأنهم ينتمون للمؤتمر، وكأن البلاد بأسرها آمنةً مطمئنة ولا ينقصها إلّا هذا الإقصاء الذي كان يقض مضاجعهم.

صحيح أن بيئة النظام السابق مليئةً بالمحسوبية والإقطاعية وأغلب من تقلّدوا المناصب فيه لا يملكون مؤهلًا يتيح لهم العمل حتى في "حراج العمال" لكنّ هذا لا يعطيك الحق أن تفرد عضلاتك على الأكاديميين الذين خدموا في مجال التعليم وكانت لهم بصماتهم العلمية طيلة 20 عام فأكثر، فقط لأنهم محسوبون على المؤتمر، ثم تأتِ بمتخرج إصلاحي يقدّس بلا هوادة، قد يحمل مؤهلًا علميًا يسمح له تقلّد منصب رفيع لكنّ قدسيته لكم ولحزبكم أعظمُ من قدسيته للّهِ والوطن.

نحن ثِرنا على نظامٍ كنّا نراه فاسدًا لأسباب عديدة، منها التوريث، وكان النِتاج أنّ حصلنا على نظام قمعي أكثر فسادًا ووحشيةً منه أنا لا أُنكر أنّي كنت أحدّ أعضاء هذا الحزب الذي خرج مرتادوه البارحة لكي يثبتوا جدارتهم لهذا الشعب أن المساس ولو بلفظ صريح نحو أيّ من مشايخهم هو الكفر بعينه، لكنّي أخجل الآن وأنا أرى واقرأ بعضًا من تصرفاتهم الرعناء تجاه رجلٍ حاول المساس بقدسّيتهم حسب زعمهم، أخجل عندما أرى ضيق منطقهم مساوٍ لمنطق الميلشيات "إن لم تكن معي فأنت ضدّي" أخجل عندما أرى أن لهم صرحًا علميًا كبيرًا، ونِتاجهم الفكري فَتًى يحاضر في مخيم صيفي طلاب كلية الطب عن "كيف ستحرّرون القدس دون الحاجة لتسريحة شعر سلسه وبنطلون جينز".

أخجل عندما أقرأ في مقر حزبكم قول اللّهِ تعالى: "أنّي أريد إلّا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلّا بالله"، وكأنها أُنزلت عليكم. فلا أصلحتم فسادكم ولا فساد غيركم؟

أخجل عندما أرى توظيفكم الدين بالسياسة خدمةً لمصالح دنيوية، وأنتم أكبر شريحة في المجتمع تعلم أن كل عملٍ مذكور سابقاً ليس مِن اللّهِ في شيء، ولكن إرضاء لرغباتكم وذواتكم العليلة، صِرتم بعدين كل البعد عن اللّهِ والناس.

أنا لست هُنا بصدد الدفاع عن (محمد الربع) كما أنه ليس بحاجةٍ لدفاعي عنه، كذلك لا أتسلق من خلال الفوضى الحاصلة للنيل من الإصلاح، إنما دفاع عن المنهج الفكري والعقلي، في مرحلة تشهد غليانًا فكريًا، مذهبيًا، طائفيًا، يشكل الإعلامي القدير (محمد الربع) أحدّ أهم ركائز محاربتها من خلال برامجه الشهيرة التي يتابعها الملايين ويأخذ بها القليل للأسف الشديد.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى