قمح عربي ينتظر الاستثمار في موسم آخر

> علي الصراف

>
​هناك 400 مليون فم عربي يريدون خبزا وهو ليس مجرد خبز إنه صانع ثورات أيضا والاستقرار الذي تفتقده دول عربية من السهل أن يتزعزع أكثر إذا طالت يدُ الغلاء هذا الخبز.

ذات عام في سوريا، ارتفعت أسعار الطماطم إلى درجة أنها صارت أغلى من الموز. فلم يبق فلاح إلا وزرع حقله بالطماطم وهو يؤمّل نفسه بأن يجني ثروة في الموسم التالي. جاء الموسم، فإذا السوق تغرق بالطماطم، حتى أصبحت أرخص من التراب. لحق مَنْ لحق على عصرها أو تجفيفها، والباقي وجد مكانه المناسب في حاويات سوء التقدير.

هذا وجه من أوجه الفوضى في التخطيط الزراعي في العالم العربي. وهو لا يشمل مزارعين يبحثون عن سبل العيش، ولكنه يشمل بالدرجة الأولى مسؤولين وقادة حكوميين، لا يغرب عنهم أي وجه من وجوه المشكلات المتعلقة بـ”الأمن الغذائي العربي”، ولا يتدبرون التدبير المناسب.

نحن نتداول هذا المصطلح منذ نحو نصف قرن، أو أكثر. وهو خضع لأبحاث ودراسات كثيرة، وعقدت من أجله الندوات والمؤتمرات وقُدمت لشرح أبعاده المئات من الكتب. ولدى الجامعة العربية منظمة قائمة بذاتها هي “المنظمة العربية للتنمية الزراعية”، تنام وتصحو، ولكنها تُصدر تقريرا سنويا حول أوضاع الأمن الغذائي العربي، مما يُفضي إلى القول إننا نعرف المشكلة، كما نعرف حلولها. وبرغم أن “الأمن الغذائي” كأي قضية أخرى في عالم تتحرك عواملُه باستمرار، فلا تتوقف النظرة إليه على معايير ثابتة، إلا أن الخطوط العريضة، الاستثمارية منها على وجه الخصوص، ليست مما تعجز إدارات التخطيط عن مواكبتها وتحديثها.

الفجوة الغذائية ظلت تتسع باستمرار. في العام 2008 كان العالم العربي يستورد مواد غذائية بقيمة 22 مليار دولار. وفي العام 2016 زادت الفجوة إلى 34 مليار دولار. ثم ارتفعت في العام 2020 إلى 53 مليار دولار. وهي اليوم تزيد على 60 مليار دولار، ومن المتوقع أن تصل إلى 90 مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة. والقمح يتربع على العرش.

هذه الفجوة مقروءة ومنظورة جيدا، إلا أنها لم تُعالج. ومثلما تتأثر أسعار المواد الغذائية بارتفاع أسعار النفط، أو بالمتغيرات المناخية، أو الزيادة السكانية، أو الأزمات كالأزمة الجارية في أوكرانيا، فالحقيقة هي أن الأسعار نادرا ما تتراجع، حتى لو تراجعت مؤثراتها.

بمعنى آخر، قل للذين ينتظرون انتهاء الأزمة في أوكرانيا لشراء القمح بأسعار أقل، سوف تنتظرون طويلا ومن دون طائل.

المياه لم تنقص لا على مصر ولا على السودان، فتُتخذ كسبيل لاختلاق المعاذير، ولكن نقص الاستقرار السياسي على مدى ثلاثة عقود على الأقل، زاد في حجم الفجوة. ولئن استنهضت مصر بعض قدراتها في السنوات القليلة التي تلت التغيير في يوليو 2013، فقد ظل السودان يرزح تحت أعباء الفشل. العراق جمع المصيبتين معا: نقص المياه، وانهيار الاستقرار. لنكتشف أن الاستقرار السياسي عامل مهم من عوامل “الأمن الغذائي”.

في بعض الأحيان نحن نزرع أوهاما أكثر مما نزرع طماطم. دع عنك القمح. وذلك بالرهان على تغطية الاحتياجات الغذائية عن طريق “تنويع” مصادر الاستيراد. هذا “التنويع” لا يحل المشكلة، ولا يغطي عليها.

مؤشر الأمن الغذائي العالمي، الذي يقيس على مؤشرات من قبيل تكلفة الغذاء، وتوافره، وجودته، وسلامته، والموارد الطبيعية، سوف يصدمك (بناء على تقرير العام 2021) عندما يضع قطر والكويت في المرتبة 24 و30 على التوالي من بين 113 بلدا، بينما يضع بلدا زراعيا مثل السودان في المرتبة 110.

مشكلات من قبيل النمو السكاني، وانخفاض معدلات الأجور، وسوء توزيع الأراضي، وانخفاض الموارد المائية ووجود الكثير من الأراضي غير المستصلحة، ليست مما لا يمكن حله، أو الحد من تأثيراته، إذا ما أمكن النظر إلى “الاقتصاد الزراعي” على أنه “صناعة”، تستوجب بالتالي إلغاء النظرة التقليدية لها كعمل فردي أو عائلي، أو قروي، ذلك لأنها مشاريع إنتاج، وتوظيف، كغيرها من المشاريع الاقتصادية الكبرى. وبالجمع بين الزيادة المُطّردة لأعداد السكان، وارتفاع معدلات البطالة، فإن مشاريع الإنتاج الزراعي الكبرى يمكنها أن توفر تسوية مثالية للأمرين معا.

توزيع الأراضي الزراعية على الفلاحين كان واحدا من أكبر الخطايا التي ارتكبتها العديد من حكومات ما بعد الاستقلال في العالم العربي. لقد كان الظن أنها ترفع الظلم عن طبقة مقهورة تحت سلطة الإقطاع. ولكن، ما حصل هو أن تفتيت القدرات الإنتاجية حوّل الزراعة إلى مشروع صغير للاكتفاء الأسري، وليس لحماية الاكتفاء الوطني، فصنع “ثقبا أسود” في الأمن الغذائي، يمتص الموارد الأخرى.

الهجرة إلى المدينة زادت الطين بلة. فمن كان قادرا على الاكتفاء الذاتي صار مستهلكا، وتستورد له الدولة قمحا من روسيا وأوكرانيا.

تقدر مساحة الأراضي الصالحة للزراعة في العالم العربي بنحو 197 مليون هكتار. وبحسب الهيئة العربية للاستثمار والإنماء الزراعي، فإن ما يُستغل منها لا يتجاوز 5 في المئة.

القطاع الزراعي العربي يُشغّل نحو 27 في المئة من إجمالي الأيدي العاملة البالغ نحو 120 مليون عامل، ولكن الطابع الفردي أو الأسري هو الطاغي عليه. إنه، في الغالب، عمل مزارعين ينتظرون موسم الطماطم التالي.

الاستثمار الحكومي، واستثمارات القطاع الخاص، لتحويل الزراعة إلى عمل إنتاجي كبير، هو المفتاح الرئيسي الأول لمواجهة الأزمة.

مصر وحدها تستورد نحو 10 في المئة من إنتاج القمح في العالم، وتستهلك نحو 20 مليون طن سنويا، أكثر من نصفها يأتي من روسيا. وتدفع في مقابله أكثر من إجمالي عائدات قناة السويس السنوية. أليست مفارقة مفجعة أن الفلاح المصري يأكل قمحا روسيا؟ ثم أليست مفارقة مفجعة أخرى أن قناة السويس تعمل لصالح “أكل العيش” الروسي؟

وعلى وجه الإجمال، فإن باقي الدول العربية تستهلك نحو 25 في المئة من إجمالي إنتاج القمح في العالم. استهلاك بهذا الحجم لا يمكن أن تغطيه مشاريع صغيرة، ولا تلبي متطلباته استثمارات فردية، أو حتى شركات صغيرة أو متوسطة. إنه عمل حكومي، بل إنه فوق حكومي أيضا.

وهناك 400 مليون فم عربي يريدون خبزا. وهو ليس مجرد خبز. إنه صانع ثورات أيضا.

الاستقرار الذي تفتقده العديد من الدول العربية مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن والجزائر والسودان وليبيا وتونس، من السهل أن يتزعزع أكثر إذا طالت يدُ الغلاء هذا الخبز.

الدول العربية الغنية قد لا تواجه مشكلة خبز، ولكنها سوف تواجه مشكلة ما بعد مشاكل الخبز في الدول العربية الفقيرة.

ما نحن بحاجة إليه هو مبادرات استثمارية، تنأى بالاستقرار السياسي أو انعدامه، عن مشاريع الإنتاج الزراعي. هذا هو المفتاح الرئيسي الثاني.

هذه المشاريع يمكنها أن تمتص قطاعا كبيرا من البطالة. ويمكنها أن توفر الخبز وما هو أكثر منه. كما أنها مصدر لعائدات ضخمة أيضا.

تراجعت الأزمة الأوكرانية أم لم تتراجع، فإن أسعار المواد الغذائية سوف تظل ترتفع. اضطرابات أخرى سوف تنشأ، وتظل تتجدد على طول الخط.

ومثلما أن الزراعة ليست مشروعا فرديا، ولا أسريا، فالحقيقة هي أن تحويلها إلى “صناعة”، أبعد من قدرات العديد من الدول العربية التي تمتلك أراضي صالحة للاستثمار. إنها عمل يتطلب تخطيطا إقليميا أيضا، يتجاوز التخطيط المحلي.

مؤتمر عربي للاستثمار في الزراعة، لاستغلال ما نملك من الأراضي الصالحة للزراعة، يمكن أن يفتح الأبواب أمام موسم آخر. وعندما تصحو “المنظمة العربية للتنمية الزراعية” من النوم، فإن الأمور سوف تتحسن بلا شك.

العرب اللندنية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى