قضية سمرقند
وكان صاحبنا السمرقندي يقرأ الشك والارتياب في وجوه أهل بلده وفي أوجه الكهنة كما يقرأ المرء في صحيفة منشورة أمامه. أما هو وأما المسلمون فلم يكونوا يشكّون، ولم تكن تُداخلهم ريبة في أن الحق والشرف فوق مصلحة الوطن، وما
وتكلم القاضي فإذا صوته يخرج خافتاً ضعيفاً، فقال للكاهن: ما تقول؟
قال القاضي للأمير: ما تقول؟
قال: أدعوتم أهله إلى الإسلام، ثم إلى الجزية، ثم إلى القتال؟
قال: إنك قد أقررت. وإن الله ما نصر هذه الأمة إلا باتباع الدين واجتناب الغدر، وإنّا والله ما خرجنا من بيوتنا إلا جهاداً في سبيل الله؛ ما خرجنا لنملك الأرض ولا لنعلو فيها بغير الحق. حكمتُ بأن يخرج المسلمون من البلد ويردوه إلى أهله، ثم يدعوهم وينابذوهم ويعلنوا الحرب عليهم..... تتمة القصة غدا...
الحلقة الثامنة
كانت القلوب تخفق ارتقاباً لأعجب محاكمة سمعت بها أذنا التاريخ، وكانت الأبصار شاخصة إلى باب المسجد الذي يدخل منه القاضي الفرد الذي وُضعت في عنقه أعظم أمانة وُضعت في عنق قاض، والذي أُلقي بين حجرَي الرحى؛ فها هنا مصلحة أمته وسيادة دولته والبلد العظيم الذي خفقت فوقه راية الإسلام وامتلكه أهله، وهناك الحق والشرف. وإنها لمزلة أقدام القضاة، وإنها لمحنة الضمائر.
الوطن؟ إن وطن المسلم دينه؛ فحيثما صاح المؤذن: «الله أكبر» فثمة وطنه. وإن جهاده للحق، فإن جاء الحق زهق معه كل باطل، ولو كان فيه نفع الأمة وكان فيه الغُنم الأكبر.
ونظروا فإذا رجل له هيئة الأعراب، هزيل، ضئيل الجسم، شاحب اللون، قد لاث على رأسه عمامة له ووراءه غلام. فجاء حتى قعد على الأرض محتبياً، وقام غلامه على رأسه.
أهذا هو الرجل الذي أتى ليحكم على خليفة قتيبة العظيم، وعلى أميره، وعلى مصلحة دولته؟ أهذا هو قاضي المسلمين؟
وانطفأت آخر شعاعة من الأمل في نفوس الكهنة. ونادى الغلام باسم الأمير، وهكذا بلا إمارة ولا لقب، فجاء حتى جلس بين يديه، ونادى باسم كبير الكهنة فأجلسه إلى جانبه.
وابتدأت المحاكمة ...
قال: إن القائد المبجل قتيبة بن مسلم قد دخل بلدنا غدراً من غير منابذة ولا دعوة إلى الإسلام.
قال: أصلح الله القاضي. إن الحرب خدعة، وهذا بلد عظيم قد أنقذه الله بنا من الكفر وأورثه المسلمين.
قال: لا.