قصص من التاريخ
سيدة من بني أمية
لا أظن أن زوجة ترضى بهذا اليوم. أما فاطمة التي انفردت بين نساء التاريخ جميعاً بأنها بنت ملك وزوجة ملك وأخت أربعة ملوك، يحكم كل منهم عشرين دولة من دول هذه الأيام ... فاطمة هذه قالت لزوجها بعدما سألته وعرفت مقصده ودوافعه: اصنع ما تراه فأنا معك، وما كنت لأصاحبك في النعيم وأدعك في الضيق، وأنا راضية بما ترضى به... التتمة غدًا...
الحلقة الثالثة
وبدأت تتسرب إلى القصر أخبار عجيبة عن الخليفة الجديد؛ فمن خادم يدخل مسرعاً يخبر أن الخليفة رفض مراكب الخلافة وألغى الموكب المعتاد وركب دابته ... وآخر يأتي يقول إن الخليفة أعلن إلغاء حفلات البيعة بما كان لها من العظمة والجلال ... وثالث يقول إنه أبى أن يمد يده إلى شيء من أموال الخزانة ... !
وتسمع فاطمة هذه الأخبار فلا تكاد تصدقها! إنها تعرف زوجها الشاب المتفتح قلبه لنعيم الدنيا، الغارق في الرفاهية والنعيم والمتع الحلال ... فما له يُعرض عن الدنيا التي جاءته مقبلة عليه، ملقية بكل ما فيها من جميل وجليل عند قدميه؟
وعاد الخليفة إلى قصره، ولكنه عاد رجلاً جديداً. لقد تبدل فيه كل شيء؛ لقد بدت النعمة للناس بحكمه منذ بويع، ولكن أهله رأوا في بيعته بوادر الشقاء!
وتلقته فاطمة، فإذا الأيام الثلاثة التي غاب فيها عنها قد فعلت فيه فعل ثلاثة قرون! وإذا هو شاحب الوجه من أثر السهر في مصالح الناس، مضطرب الأوصال من ثقل الأمانة وخوف الله، فانشعب قلبها رأفة به، وإشفاقاً عليه.
وقال لها: يا فاطمة، قد نزل بي هذا الأمر وحملت أثقل حمل، وسأسأل عن القاصي والداني من أمة محمد، ولن تدع هذه المهمة فضلة من نفسي ولا من وقتي أقوم بها بحقك عليّ، ولم تبق لي أرباً في النساء. وأنا لا أريد فراقك ولا أوثر في الدنيا أحداً عليك، ولكني لا أريد ظلمك، وأخشى ألا تصبري على ما اخترته لنفسي من ألوان العيش، فإن شئت سيّرتك إلى دار أبيك ... قالت: وماذا أنت صانع؟
قال: إن هذه الأموال التي تحت أيدينا، وتحت أيدي إخوتك وأقربائك، قد أُخذت كلها من أموال المسلمين، وقد عزمت على نزعها منهم وردّها إلى المسلمين. وأنا بادئ بنفسي، ولن أستبقي إلا قطعة أرض لي اشتريتها من كسبي، وسأعيش منها وحدها. فإن كنت لا تصبرين على الضيق بعد السعة فالحقي بدار أبيك!
قالت: وما الذي حملك على هذا؟
قال: يا فاطمة، إن لي نفساً توّاقة، ما نالت شيئاً إلا اشتهت ما هو خير منه، اشتهيت الإمارة، فلما نلتها اشتهيت الخلافة، فلما نلتها اشتهيت ما هو خير منها؛ وهو الجنة!
ترى لو أن تاجراً موسراً، أو موظفاً كبيراً يسكن في القصر الفخم في الشارع الكبير وفي داره نفائس التحف وروائع الفرش، ثم أراد أن يتخلى عن ذلك كله لله، هل يجد زوجة توافقه على ذلك وترضى به، وتعيش معه في غرفتين فارغتين في حارة ضيقة، وتأكل معه الحمص والفول بعد
المائدة الحافلة، وتمشي على رجليها بدل سيارة الكاديلاك الخاصة؟