​عندما تكون السياسة صنعة بطالة مُقنّعة

> العرب «الأيام» علي الصراف:

> إذا كانت "الضيافة الدائمة" قد انتهت بالنسبة إلى السياسيين اليمنيين في الرياض، فمن المفيد لكل طبقة السياسة في عالمنا العربي، أن تكف عن الاسترخاء في “مضايف” الأزمات التي تعاني منها بلدانها.

الذرع لا يضيق بالرياض ولا بأي من العواصم الخليجية الأخرى عن استقبال أي أحد أو أي عدد من السياسيين ممن لديهم ما يفعلونه حيال مشكلات بلدانهم، لو أنهم يفعلونه فعلا. الفنادق عامرة، والصدور رحبة، والدعم المادي متاح. ولكن هذا لا يفترض أن يكون هو نهاية القصة.

الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي قد يجد مبررا للإقامة في الرياض. هو الشرعية التي يحسن المحافظة عليها. ولكن أن تجرَّ هذه الإقامة وراءها جيشا من الشخصيات والفاعليات العشائرية والضباط ومسؤولي الأحزاب الذين استطابوا كرم الضيافة، فهذا موضوع آخر.

الذين صاروا جزءا من الأزمة، أو الذين شاركوا في صنعها، مكانهم الطبيعي هو العيش في قلب الأزمة، إلى جانب شعبهم بالدرجة الأولى، ليعانوا ما يعانيه، وليدافعوا عن مواقعهم كما يحسن الدفاع عنها، وليس في مضايف الآخرين أو فنادقهم.

رحلات العودة إلى عدن بدأت على أي حال، لكي تطوي صفحة الفشل الإداري الذي رافق صراعا عسكريا، أمكن بشق الأنفس أن يفرض واقعا جديدا على الأرض.

ومع نقل صلاحيات الرئيس إلى مجلس قيادة رئاسي، فلسوف تكون هناك قيادة سياسية وميدانية قادرة للمرة الأولى، منذ سبع سنوات، على أن تدير شؤون البلاد بأن تغرس أرجلها بالأرض، وليس بالريموت كونترول.

وجود سياسيين في الخارج بينما الأزمات تطحن بلدانهم، هو استقالة غير معلنة. ومثلها كل أشكال الترهل والاسترخاء والاعتكاف الأخرى التي تبلغ مستوى اللامبالاة بما تعانيه شعوبهم، من بطالتهم المقنعة، ومن عجزهم عن المشاركة في صنع الحلول.

في لبنان، تحولت البطالة السياسية إلى جزء من طبيعة المشهد العام. فبينما تحتكر القيادات أوصافها ومراكزها، في الغالب بوصفها ميراثا أو نوعا من ميراث سياسي، فإنها تدير الظهر لمعاناة الملايين، ريثما تأتي الأزمة لتطرق عليهم الباب، لتسألهم دورا أو موقفا أو شراكة في حل.

اعتكاف سعد الحريري عن السياسة ليس هو الأول. الكل في لبنان يمارس نوعا أو آخر من الاعتكاف أو الاستنكاف، بينما البلاد تمضي من قاعٍ في جهنم إلى قاعٍ أدنى منه.

أكبر المعتكفين، هم في الواقع، الذين يمارسون اعتكافهم من دون أن يعلنوه. هم أكبر أسباب الأزمة في غالب الأحوال. بمن فيهم الذين يبدون وكأنهم “موجودون” في البيانات والتصريحات الصحافية، بينما هم غائبون عن الواقع كله.

قالب ثابت من “المواقف” المتكررة هو ما يصنع “وجودهم” الافتراضي، بينما هم غائبون عن البحث عن مخارج فعلية عن الأزمة. وبينما يتحصن كلٌّ في موقعه، لكي يمارس اعتكافه عن مشكلات البلاد، فإن الحلول تغيب والمخارج تتعثر، حتى تلك التي يفتحها الراغبون بمساعدة البلاد من الدول الأخرى.

الرهانات كلها تتركز الآن على صفقة مع صندوق النقد الدولي. وكأنها هي المعجزة المنتظرة. لا يوجد تركيز على أي شيء آخر. لا أحد يعرض خططا واقعية للإصلاحات المطلوبة. وليس من مشاغل كل طبقة السياسة في لبنان أن تعيد النظر في طبيعة النظام السياسي نفسه، الذي يعرف الجميع أنه هو جوهر الأزمة وهو مصدر تجددها وتكرارها باستمرار. التغيير لم يعد هو المسألة. وكأن ثلاثة مليارات دولار يقدمها صندوق النقد الدولي سوف تكفي لتسديد فاتورة الخبز. والكل يعرف أنها لا تكفي، ولا تُغلق ثقبا واحدا من ثقوب جهنم. إلا أنهم ينشغلون بها، انشغال تسلية، لكي لا ينشغلوا بشيء آخر.

مقتدى الصدر في العراق قرر أن يمارس اعتكافا مماثلا، هو استمرار ليس لبطالته الدائمة هو، ولكنه استمرار لبطالة فريق عريض من السياسيين، المعارضين منهم للنظام القائم خاصة، الذين يتعاملون مع أزمات بلادهم من طرف الأصابع. لا توجد أفكار. لا تتحرك مياه السياسة الراكدة. لا أحد يبحث عن أطر سياسية جديدة للتغيير، أو للنظر إلى الأفق، أو بناء استراتيجية وطنية مشتركة ولو بين بعض الأحزاب التي تكتوي بنيران الهيمنة الميليشياوية على مصائر البلاد. حتى أصبح “التغيير” أن يعود نوري المالكي إلى السلطة أو يكون حجر الزاوية فيها من جديد.

هذه قد تبدو نكتة سمجة، ولكنها من سماجة الواقع الذي صنعته البطالة.

ممارسة السياسة من طرف الأصابع، ليست سياسة. إنها فشل يساهم في مضاعفة الفشل. ولعب الأدوار بغنج، يحولها إلى لعبة ترضيات شخصية. وفي خضم أزمات تطحن الملايين من البشر وتهدد حياتهم كما تهدد اقتصاد البلاد، فهي إنما تترك فراغات ليس لزعزعة الأمن فحسب، ولكنها تضع البلاد ومصائر الناس في مهب الريح أيضا، حيث لا يعود أحد قادرا على الإمساك بزمام التداعيات.

هذه التداعيات عندما تتكالب، كما تتكالب في اليمن ولبنان والعراق وتونس، فإنها سرعان ما تقدم الدليل على أن طبقة السياسة نفسها جزء من المشكلة. من ناحية، لأنها تتصرف باسترخاء حيال ما لا يسترخي بمخاطره وعواقبه على حياة الناس. ومن ناحية أخرى، لأنها لا تستخدم مكانتها في الحياة العامة لتقديم الحلول والبحث عن مخارج، بالنزاهة والتجرد والموضوعية التي تفرضها الأزمات الشاملة.

يمتلك السياسيون الصورة والميكرفون والكلمة. هذه هي سلطتهم بالأحرى. إنها هي ما تجعل أصواتهم مسموعة ووجوههم، أو وجهاتهم، منظورة ومواقفهم مؤثرة.

لا يملك عامة الناس، كما لا يملك مثقفوهم ولا خبراؤهم هذه السلطة. وعندما لا يستخدمونها في صنع الفارق المطلوب لتغيير المسارات العوج، فكأنهم هم جوهر المشكلة.

ما من مجتمع إلا ويواجه في دورة من دورات الحياة أزمة خانقة. ولكن الفارق يصنعه السياسيون الأحياء في المجتمعات الحية. هم يتدبرون الحلول. وهم يفتحون الثغرات في جدران اليأس. وهم الذين يفتحون، بأيدٍ وأرجلٍ تنغمس بالطين، بوابة الأمل.

السياسي الذي يمارس على الناس بطالته المقنعة، أو يلعب أدواره بغنج، أو يمسك الأزمات من طرف الأصابع، من الخير أن يرحل، وأن يكف عن استغلال “المضايف”، من قبيل البرلمان أو المكاتب الحزبية، التي يتعامل مع الإقامة فيها على أنها “إقامة دائمة” ويحفُّ بها كرمٌ لا ينقطع.

الكرة الأرضية مليئة بالجزر الهادئة التي يمكن للمرء أن يسترخي ويعتكف فيها ما شاء له الهوى، فيعفي الناس من بطالته وغفوته.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى