موقع مشاورات الرياض في مسارات البحث عن الحلول السياسية للأزمة اليمنية

> د. صالح طاهر سعيد *

> ليس للأزمة اليمنية جذورًا متأصلة في الواقع الاجتماعي والسياسي لمنطقة جنوب الجزيرة العربية (في الجهوية اليمانية)، فالبناء الاجتماعي والسياسي في هذه المنطقة تشكل وأصبح واقعًا قائمًا بوصفه ثمرة لتاريخ طويل يمتد إلى آلاف السنين، ظهرت نتيجته شعوب ودول المنطقة، وبهذا المعنى فالأزمة اليمنية صناعة فوقية صنعتها بامتياز الأحزاب السياسية الأيديولوجية التي تمثل امتدادًا للسياسات الخارجية، حين انتهجت سياسة منفصلة عن الواقع الحقيقي، وهدمت البنيان الشعوبي والدولي وحشرت الشعبين والدولتين بصورة تعسفية مخالفة لقواعد الاجتماع والسياسة في دولة واحدة اسمتها الجمهورية اليمنية، جرَّاء فتح أبواب المنطقة على مصراعيها للأزمات والصراع والحرب، وبالنتيجة انهيار التوازن وتقويض الحق وتغييب العدالة والاضطراب وعدم الاستقرار وتهديد الأمن والسلام الإقليمي والدولي وصارت عناوين دائمة لمنطقة جنوب الجزيرة العربية وباب المندب على مدى الأربعة العقود الماضية.

تدافعت الدوائر المحلية في كل من الجنوب والشمال والدائرة العربية والدائرة المحيطة بالعالم العربي والدائرة الدولية والدائرة المرتبطة بمؤسسات الشرعية الدولية، تدافعت للبحث عن الحل السياسي ووضع نهاية لهذا الوضع الطارئ على شعوب المنطقة، لكنه كان تدافعًا غير محكوم بإيقاع واحد، لقد كان خاضعًا للأهواء والمصالح الضيقة لكل دائرة.

ففي هذا المسار يمكننا ذكر محطة عمان (الأردن) ووثيقة العهد والاتفاق التي أفضت إلى حرب غزو واحتلال الجنوب في 1994. وفرض سيطرة عسكرية شمالية على كامل جغرافية دولة الجنوب، وما أعقبها من صدور قرارات دولية (قراري 924 و 931) اللذان بقيا دون تنفيذ، ثم تلتها محطة حوار صنعاء التي أنتجت حرب 2015، المستمرة إلى اليوم ثم اتفاق الرياض وأخيرًا محطة مشاورات الرياض، حلول أنتجت حروب، وحلول أبقت الأبواب المفتوحة لاستئناف الحرب.

الصفة الأبرز لهذه المسارات تكمن في أن الدوائر الخارجية الإقليمية والدولية تفاعلت مع صناع المشكلة ولم تتمكن من إبراز الأطراف الفاعلة في الواقع وتقتصر تعاملها معهم على غرار ما فعلت في وقت لاحق مع المجلس الانتقالي الجنوبي.

هناك حكمة صينية تقول أن تشخيص المرض نصف العلاج، ففي المحطات الأربع في مسارات الحل نلاحظ أن السائد فيها تجنب الإقرار بحقيقة أن لليمن بشعبيها قضيتان، قضية دولة لشعب الجنوب، وقضية سلطة لشعب الشمال، والخلط بينهما في مسارات البحث عن الحل أضرَّ بالشعبين وضاعف من معاناتهما وسيستمر الأمر إلى أن نسمي الأشياء بمسمياتها، فالحل يبدأ بالإقرار بالقضيتين واختلاف طبيعتهما ووضع خرائط الحل لكل منهما.

شعب الجنوب أجرى تقييمًا شاملًا لمسارات الماضي وأقرَّ بالأخطاء السياسية الجسيمة وأعاد تشكيل وعيه لذاته الوطنية وتبنى خارطة طريق لإصلاح الجنوب وإعادة صياغة سياسات التعامل مع الحاضر وحدد اتجاهات السير نحو المستقبل، فتمكن من إعادة بناء ذاته حتى أصبح رقمًا صعبًا في كفة معادلة التوازن الاستراتيجي مع الشمال، وأصبح في وضع استطاع من خلاله تحديد مبادئ ومنطلقات لحل قضيته مع الشمال، فيما الشمال ترك الشمال ( منشأ المشكلة) واتجه للبحث عن حل مشكلات للشمال من بوابة الجنوب وكانت النتيجة فشل كامل في الشمال وإعاقة حركة الحل ومساراتها في الجنوب، وهنا دخلت الأزمة في تعقيدات جديدة.

للأزمة اليمنية بعدان: البعد الأول يتصل بالمشكلات الداخلية لكل من الشعبين ودولتيهما في الجنوب والشمال، وبعد خارجي يرتبط بغزو الشمال للجنوب واحتلال أراضيه وضمه إلى دائرة نفوذه وسيادته، وهناك بعد ثالث يتمثل بالارتباطات الإقليمية والدولية للأزمة.

قدم الجنوب منذ حرب الغزو والاحتلال نموذجًا لمسار حل قضية شعب الجنوب ببعديها الداخلي والخارجي، وانشغل الشمال في تحطيم هذا النموذج، ولم يعمل شيئًا يذكر في رسم خرائط ومسارات لحل مشكلات الشمال وكرس كل الجهد لخلق العوائق والعراقيل لتعطيل وإفشال المشروع الوطني الجنوبي.

على تعدد أبعاد الأزمة في الحالة اليمنية يتحدد تعدد مسارات الحل الجزئية والكلية للأزمة، ونرى أن يشمل هذا التعدد في مسارات الحل حلقات الأزمة في بعدها الداخلي المرتبط بالمشكلات في كل من الجنوب والشمال، وبعدها الخارجي المرتبط بالمشكلة الكبرى القائمة بين الجنوب والشمال، وعلى حل هذه المشكلات ببعديها الداخلي والخارجي يتوقف إعادة وضع الارتباطات الإقليمية والدولية للأزمة في مداراتها الطبيعية السليمة، المتناغمة مع القانون الدولي والمبادئ والاتفاقات المنظمة للعلاقات بين شعوب ودول العالم ومنها شعبي ودولتي اليمن

إذا كان حال الوضع بالنسبة لدائرتي الجنوب والشمال يكمن في تبني الجنوب النصف الأول من الحل في التركيز على تقييم وإصلاح ذاته الوطنية والتهيئة لمفاوضات ندية مع الشمال الطرف الثاني في الأزمة، فيما الشمال ركز كل جهده على تعطيل المسعى الجنوبي، فماذا عن التدخل الإقليمي والدولي في هذه الأزمة ؟

الشيء الثابت أن العلاقات بين شعوب ودول العالم محكومة بقانون دولي وبمبادئ واتفاقيات ومعاهدات أي أنها ليست نهبًا للفوضى والأهواء، فهي تأتي لترسيخ وتطوير المسارات الطبيعية السليمة للعلاقات الدولية، أو أنها تأتي لإصلاح خلل أو خروج عن المسار الطبيعي حدث داخل هذه الدولة أو تلك أو في العلاقات بين هذه الدول أو تلك. الأمر الذي يعني أن المرجعية الأصل التي تحتكم لها هذه العلاقات والتدخلات هي القانون الدولي وما يلحق به من مبادئ واتفاقيات ومعاهدات، أما القرارات والبيانات والمبادرات فهي تتفرع من المرجعية الأصل والفرع يخضع للأصل، أي أنها ملزمة فقط في حال تناغمها مع الأصل وإذا خرجت عن أصولها تسقط منها صفة الإلزام.

طبقًا لهذا المعيار المرجعي يمكن الحكم على محطات التدخل الخارجي وما صدر عنها من بيانات ومبادرات صنفت أنها مرجعيات الحل ( المرجعيات الثلاث) ومدى تناغمها مع المرجعيات الأصل، بهذا الفهم نجزم القول أن مايسمى بالمرجعيات الثلاث تعد محطات منتهية الصلاحية لعدم تطابقها مع تشخيص الواقع الحقيقي للحالة اليمنية وعدم تناغمها مع مضامين الاتفاقات والعهود والمبادئ المنظمة للعلاقات بين شعوب ودول العالم أولا ثم أن النتاج الطبيعي لها أنها أنتجت حروبًا ولم تنتج سلامًا، بمعنى أن الفشل في الشقين النظري والتطبيقي لهذه المرجعيات كان عنوانها.

صحيح أنه تم الإقرار بقضية شعب الجنوب والإقرار بمبداء المناصفة في التمثيل بين الجنوب والشمال في مؤتمر حوار صنعاء إلا أنه في مراحل معينة من مسار المؤتمر جرى وأد هذا الإقرار والانقلاب عليه تطور ذلك إلى حرب شاملة، وبفعل التعقيدات التي دخلتها الأزمة اتجه الجهد الإقليمي والدولي نحو اعتماد مبدأ التدرج في البحث عن الحلول السياسية لها، وتأتي وثيقة اتفاق الرياض الموقعة بين المجلس الانتقالي الجنوبي والحكومة اليمنية ومشاورات الرياض وما تمخض عنها من صدور وثيقة إعلان الرياض في إطار هذا التدرج في الحلول الانتقالية عبر أطوار الأزمة.

حيث أقرَّ اتفاق الرياض بأن المشكلة الكبرى في الحالة اليمنية تكمن في تواجد القوات الشمالية وسيطرتها على أجزاء من أراضي الجنوب وفي سيطرة القوات الحوثية على معظم أراضي الشمال، وتبني ما يمكن تسميته "الحل المزدوج" حلًا ينهي التواجد العسكري الشمالي في الجنوب ونقل تلك القوات الشمالية إلى خطوط المواجهة مع القوات الحوثية والبدء بمعركة تحرير الشمال من السيطرة الحوثية، كما أقرَّ الاتفاق بوجود قوتين تتحكم في مجريات الأحداث في اليمن: القوات الجنوبية يقودها المجلس الانتقالي الجنوبي والقوات الشمالية تقودها سلطة الرئيس هادي الانتقالية، واعتماد جملة من الإجراءات للتقارب بين القوتين وتوحيد جهدهما لمواجهة القوة الثالثة المتمردة بقيادة الحوثي وتنظيم الشراكة بين الجنوب والشمال في إدارة المرحلة الانتقالية الثانية التي أسس لها اتفاق الرياض وجاءت مشاورات الرياض مواصلة لها وتصويب لمسارها وإصلاح الأدوات المعنية بتحقيقها، وبهذا المعنى يمكن أن تكون مشاورات الرياض الامتداد التطبيقي لاتفاق الرياض.

وبناء على ما تقدم فإننا ننظر إلى مشاورات الرياض بكل ما تمخض عنها ينبغي أن تفتح الطريق لتصويب مسار المرحلة الانتقالية، بحيث يتم فيها التركيز على ماهو آتي:

أولًا: الحوار الاجتماعي والسياسي الشامل بين الجنوبيين والإقرار بالحقوق الوطنية الثابتة لشعب الجنوب هوية وطنية مستقلة وحق سيادة على أرضهم وحقهم في تقرير مصيرهم بوصفها حقوق ثابتة غير مطروحة للنقاش وتصنف ضمن المسائل الاتفاقية عند كل شعوب العالم، ثم الحوار على إعادة بناء دولة الجنوب الجديد والاتفاق على المبادئ والاتجاهات العامة لنظامها الدستوري والقانوني، وهذا يعني أن الحركة الاجتماعية والسياسية لشعب الجنوب محكومة بمرحلتين: مرحلة استعادة دولة شعب الجنوب المستقلة بحدودها الدولية المعترف بها، ومرحلة إعادة بناء الدولة ونظامها الدستوري، وأن على كل المكونات البنيوية لشعب الجنوب حشد كل الجهود على استكمال المرحلة الأولى والاتفاق على وضع خارطة طريق لتنفيذ أهداف المرحلة الثانية.

ثانيًا: مغادرة القوات الشمالية التي لا تزال في العديد من مناطق الجنوب ( في وادي حضرموت والمهرة والجيب المتبقي في شقرة وغيرها) واتجاهها إلى جبهات المواجهة مع الحوثي في مناطق مأرب الجوف بحسب ماهو منصوص عليه في اتفاق الرياض .

ثالثًا: حين نتحدث عن الشراكة ينبغي الإقرار بأطرافها أولًا ثم تنظيم العلاقة بين هذه الأطراف.

يبدأ ذلك بالإقرار والاعتراف بالثنائية التي تقوم عليها المعادلة في الحالة اليمنية ثنائية الشعبين في كل من الجنوب والشمال وما يترتب على هذا الإقرار من إجراءات جسّد ذلك اتفاق الرياض الموقع بين المجلس الانتقالي الجنوبي والحكومة اليمنية، ثم تلا ذلك شركاء هذه الثنائية في البعدين الإقليمي والدولي، عبرت عن ذلك مشاورات ومخرجات الرياض التي رسمت الإصلاحات الهيكلية للسلطة الانتقالية وتنظيم اتجاهات العلاقة بين الطرفين الوطنيين في كل من الجنوب والشمال من جهة، والأطراف الإقليمية والدولية من جهة ثانية. وكان ذلك متناغمًا مع البعد الوطني المرتبط بالمشكلة الكبرى القائمة بين الجنوب والشمال، ومع البعد القومي الإقليمي المرتبط بحماية الأمن القومي العربي من التدخلات الخارجية، ومع البعد الدولي وحماية القانون الدولي والمبادئ المنظمة للعلاقات الدولية من أخطار الخروج عنها على غرار ماهو حاصل في الحالة اليمنية.

كل ذلك يعني أن الأطراف الأربعة (شعب الجنوب وشعب الشمال والطرف العربي والطرف الدولي) الذين اجتمعوا في مشاورات الرياض تركزت مشاوراتهم على وضع خارطة طريق لحل الثلاث المشكلات الكبرى التي تعتبر مفاتيح السلام المستدام وإنهاء التوترات في الحالة اليمنية وفي منطقة منطقة جنوب الجزيرة العربية عامة وهي:

1- استعادة الهوية الوطنية المستقلة للشعبين واستعادة سيادتهما كلًا على أرضه بحدودها الدولية المعروفة واستعادة دولتيهما كما كانت قبل مايو 1990 والإقرار بفشل المسار الاتحادي بينهما.

2- وضع نهاية للتدخلات الخارجية في المنطقة ووضع نهاية لأنشطة الأطراف الموالية للخارج بالحوار والاحتواء أو بغيرها .

3- إعادة الاعتبار للقانون الدولي ومؤسسات الشرعية الدولية وللمبادئ والعهود المنظمة للعلاقات بين شعوب ودول العالم بعد أن جرى العبث فيها في هذه المنطقة من العالم.

يمارس كل من الشعبين حقه السيادي الكامل وحقه في تقرير مصيره في إدارة شؤونه على امتداد جغرافيته السيادية ولا يشترك معه أحد في ذلك: تقتصر الشراكة بين الأطراف الأربعة في الفقرتين الثانية والثالثة.

رابعاً: وضع نهاية لما يسمى بدستور الجمهورية اليمنية والقوانين المتفرعة عنه وسن تشريعات دستورية وقانونية انتقالية لتسيير المرحلة الانتقالية، تستند مضامينها على اتفاق الرياض وعلى مخرجات مشاورات الرياض وعلى رأسها إعلان نقل السلطة الصادر عن رئيس السلطة الانتقالية السابق عبدربه منصور هادي.

فما تم الاتفاق عليه ينبغي أن يكتسب الصفة الدستورية والقانونية التي من خلالها يتم تصميم مربع الحركة الاجتماعية والسياسية على مستويين:

المستوى الأول: تشريع دستوري وقانوني انتقالي خاص بالجنوب وآخر يخص الشمال- طرفي اتفاق الرياض تشرعن بموجبها هياكل السلطة الانتقالية في الجنوب وفي الشمال وتحديد وظائف كل من السلطتين وحدود حركة كل منهما.

المستوى الثاني: تشريع دستوري وقانوني انتقالي يستوعب الشراكة ووظائفها بين أطراف مشاورات الرياض (الجنوب والشمال والتحالف العربي والطرف الدولي) يشرعن العلاقة بين هذه الأطراف ويحدد دور وحدود هذه العلاقة بين أطرافها.

خامسًا: لا تستطيع الحلقات الثلاث للسلطة الانتقالية (السلطة الانتقالية في الجنوب+ السلطة الانتقالية في الشمال+ حلقة السلطة الانتقالية المشتركة) أن تقوم بوظائفها دون تمكين كل طرف من موارده الاقتصادية والمالية والاتفاق على توزيع المساعدات والقروض الخارجية على الأطراف الثلاثة، مما يجعل الاتفاق على تمكين كل طرف من موارده الاقتصادية والمالية أولوية قصوى من أولويات المرحلة الانتقالية.

سادسًا: ومن أولويات المرحلة الانتقالية تطبيع الأوضاع في كامل الامتداد الجغرافي للمنطقة السيادية لشعب الجنوب وفي المناطق المحددة في الشمال أو ما يسمونه "المناطق المحررة " يشمل ذلك الأمن وخدمات الكهرباء والماء وإعادة الإعمار وفصل الاتصالات عن مناطق سيطرة الحوثي وحل مشكلة المرتبات ووظيفة التطبيع تقع على كل حلقات الشراكة .

* أستاذ الفلسفة السياسية المساعد كلية الآداب جامعة عدن

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى