هشام باشراحيل.. الكتابة بالسيف

> كانت برلين شريكًا حزينًا هذه المرة، وما كان أحد ليفكر لحظة أن سحابة قاتمة فوق سماء برلين سوف تشيّع الرجل الكبير بقطرات مطر تشبه الدمع ليبدأ موكب الحزن لسيد عدن المودع هشام محمد علي باشراحيل من هناك؛ من أقصى الأرض، يخترق شوارع برلين، عودًا إلى ذي بدء إلى عدن مدينة الرجل المسجى الأثيرة على قلبه، مطويًّا هذه المرة سفرًا من العمل والجهد والمثابرة والنضال، ومن الحب والنجاح والمغامرة أيضًا، دون استثناء.. الرصاص والقصف والسجن.

مات هناك وبقي في قلوبنا هنا...

تكتمل الصورة السريالية المعقدة والبسيطة في آن واحد لهشام باشراحيل محمولًا على الأعناق هذه المرة إلى مقبرة القطيع، حيث يرقد أحبابه هناك، وكنت إلى جانبه في حياته أحيانا كثيرة وهو يودعهم، ولكني رأيت حزنه كبيرًا وجليلًا عند فراقه ابنته (هناء) - رحمها الله - وكانت بالنسبة له نبضات قلبه، وتحمّل وتجلّد؛ وإذا به يقول لي بعدها بأيام: الحزن يا حبيب يبدأ كبيرًا وينتهي صغيرًا، وكأنه يواسي نفسه.

قبل عشر سنوات؛ وفي مثل هذا اليوم انطفأ سراج عدن الوهّاج، مات الرجل الكبير والكثير والواسع، لا شك أنه أغمض عينيه مطمئن النفس بعد أن بذر في هذه الأرض منابتا للحب والنضال والكفاح ومعنى احترافية الحرف أن يكون جمرًا في صدور العتاة والظلمة والمجرمين.

رسخ أنموذجًا لابن عدن الذي يعتلي القمم غير هيّاب أو خوّاف أو متردد، وكأنه يردد مع الجواهري الكبير:

يرقى الجبال مَصَاعِبًا ترقى به

ويعاف للمتحدرين سهولًا

كان ذهب المعز طوع يديه أن أراد..

فأباه، وارتضى أن يجابه سيف المعز بسيف الكلمة.

لم يغره بريق الذهب لأنه يخفي وراءه الذل وقطع اللسان عن قول الحق، ويغدو الأمر هكذا:

من يهن يسهل الهوان عليه

ما لجرح بميت إيلام

كما قال المتنبي العظيم، أو إذا أردناها بفصاحة أهل لحج الشعبية:

من باع نفسه وهان

يصبر على ذي الهيانة

لقد لفت انتباهي وأنا أراجع كتاب رجل الاستخبارات البريطانية ديفيد ليدجر (رمال متحركة) عندما تحدث عن الأستاذ محمد علي باشراحيل - الأب المؤسس - رحمه الله في سنوات الغليان الستيني في عدن؛ بلهجة غير سوية ولا تحمل الرضا، حيث كان الباشراحيل الكبير يلتقي يوميًا بأطياف العمل السياسي الوطني في مكتبه من عدن والجنوب، فأيقنت أن (ابن الوز عوام) حقًا، فهشام جعل مكتبه وبيته خلية نحل لأصحاب الحاجات وللسياسيين وأرباب الفكر والثقافة دون أن يكل أو يمل أو يتذمر.

ومع اشتداد الحراك الجنوبي والذي كان هشام سيده الأول دون منازع سخر صحيفته"الأيام" لتكون نافذة الجنوبيين في نضالهم الشاق وعانى ما عاناه وأسرته معه في سبيل هذه القضية إلى الحد الذي رأينا الرصاص يهز أرجاء دار الباشراحيل والتي شبهناها يومًا بدار أبي سفيان من دخلها كان آمنًا.

ورأينا هذا العملاق الكهل والذي ينهشه المرض يقتاد إلى سجن المباحث الجنائية بخورمكسر دون أن يرف له جفن، وغدا صانعًا لفصل جديد؛ عجيب وغريب، عندما حوّل باشراحيل هشام محمد علي ساجنيه إلى سجناء بمن فيهم قائدهم السنباني، دون أدنى مبالغة فيما أقول ويستطيع نجلاه الكريمان هاني ومحمد أن يتحدثا عن ذلك مطولًا إلى جانب بقية السجناء من أسرة "الأيام" وأقرباء باشراحيل.

كان هشام وتمام يدركان عواقب ما يقدمان عليه في مجابهة نظام انتشى حد الثمالة بانتصاره في حرب العدوان، وكان صوت"الأيام" يأتي باكرًا؛ قويًا ومزلزلًا.. ومقلقًا بالنسبة لأصحاب النصر الذي يشبه الهزيمة في 7/7/1994 نذكر فقط بواحدة فقط من الكتابة بسيوف الحرف وهي سلسلة مقالات د. أبوبكر السقاف الموسومة بـ (جناية الوحدويين الاندماجيين وفتح عدن)، وكان الثمن باهضًا ولكنه مشرفًا مع استمرار"الأيام" على هذا النهج، وارتفع هذا الرصيد النضالي إلى عنان سماء عدن، هشام في المقدمة ومعه أخوه تمام والأبناء باشراحيل وهاني ومحمد والفاضلات من نساء وبنات هذا البيت وحتى الأطفال كان لهم نصيب وشرف من هذه المعاناة.

ألا يجب أن تدرس هذه السيرة العطرة لهشام محمد باشراحيل؟ هشام الذي بدأ منذ زهرة شبابه الخوض في الحبر والورق وهدير آلات الطباعة التي درسها وتخصص فيها في بريطانيا. وكان مواكبًا لأبيه المؤسس و"الأيام" تشق طريقها متوجهة كأولى الصحف في بلاط صاحبة الجلالة في ستينيات القرن الماضي، وغير بعيد عن أفق الصحافة كما ترسمه فاضلة أخرى من هذه الأسرة العريقة السيدة ماهية نجيب خالة هشام وهي تصنع السبق في عدن واليمن والجزيرة العربية بأول مجلة نسوية هي (فتاة شمسان)، وغير بعيد أيضًا عن معارك خاله الشخصية الوطنية الكبيرة السيد عبدالرحمن جرجرة؛ الأدبية والسياسية بجريدتيه المعروفتين (النهضة) و(اليقظة)، قبل أن يحمل شعلة "الأيام" في إصدارها الثاني عام 1990م إلى جانب أخيه الأستاذ تمام باشراحيل.. وكان ما كان.

عشرة أعوام من الرحيل يا هشام ولكنها إرادة الله وقدره الذي لا اعتراض عليه.

رحم الله أبا باشراحيل هشام محمد علي باشراحيل رحمة واسعة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى