ما الذي تبقى من أحاديثنا المهدورة؟

> فاروق قاسم

> ​وللحديث بقية تلك جملة هي بمثابة استعارة حديثة من الفاصلة التي تقع بين ليلتين من ليالي شهرزاد في الليالي العربية.

في حياتنا العربية الحديثة ما من حديث مكتمل فهو أشبه بالحكاية التي يجب أن تظل ناقصة وإلا كان القتل.

لا أدري لمَ لا يختم الكتاب العرب مقالاتهم بجملة “للحديث بقية”؟

التظاهرات التي تخرج في العالم العربي تحتاج إلى لافتة تُكتب عليها جملة “ستكون هناك مظاهرة لاحقة”.

حتى الأزواج الذين يتصالحون بعد أزمات عائلية يمكنهم أن يروا أن هناك مشكلة قادمة لا يعرفون ما هي.

غير أن الأكثر تعقيدا إنما يقع في المناخ العام الذي أكلته السياسة.

نحن أكثر شعوب العالم حديثا في السياسة، بل نحن لا نتحدث في أمر آخر سواها. ولكن ذلك لا يعني أننا نفهم فيها. وهو ما جعلنا نظن بل ونؤمن بأن زعماءنا هم دهاة في فن السياسة وعلمها. ولأن السياسة فتحت الطريق أمامنا نحو مستقبل مجهول فقد كنا دائما ننتظر بقية الحديث.

هل أكمل جمال عبدالناصر خطابه حين فاجأه الموت؟

هل أخذ صدام حسين أسراره معه حين صدمنا بجملته “عاشت فلسطين”؟

عبر أربعين سنة من الحكم لم يصل معمر القذافي إلى الجملة الأخيرة من كتابه الأخضر.

كان زعيم الحزب الشيوعي العراقي يوسف سلمان يوسف (فهد) مطمئنا في زنزانته إلى أن أحدا لن يجرؤ على تنفيذ حكم الإعدام الصادر بحقه لأن الطبقة العاملة ستهب لنجدته. وحين فتح الحراس باب زنزانته في فجر نهاره الأخير سألهم “هل شهدت بغداد تظاهرات عارمة تُطالب بإطلاق سراحي؟” وحين لم يجب الحراس تأكد أن أي بقية للحديث لا معنى لها فقال لهم “خذوني”. ومن يومها وحزبه ضائع في بقية من حديث لم تكن مجدية.

كل تاريخنا السياسي هو عبارة عن حكايات ناقصة.

لم تكتمل الوطنية ولا القومية والاشتراكية. لا اليسار اكتمل ولا اليمين. لا الحرية غمرتنا برذاذها المنعش ولا الوحدة فتحت أمامنا آفاق التكامل الاقتصادي ولم تكن الرسالة الخالدة سوى نقش مزور على جباهنا. الأخطر يكمن في أن إنسانيتنا لم تكتمل.

لم نتعلم شيئا من كل الكوارث التي ضربتنا. ليس لدينا وقت للمراجعة. فالمراجعة تتطلب نوعا من الاستقرار وهو ما نفتقد إليه منذ عقود. وإذا ما نظرنا إلى واقعنا من فوق سيصيبنا الذعر. فنحن في هبوط سريع إلى الهاوية. فليس لبنان اليوم على سبيل المثال يمكن مقارنته بما كان عليه وهو الملقب بسويسرا الشرق. أما مدن الشرق العربي الكبرى، القاهرة، بغداد، دمشق فهي في حالة لا تُسر. ركام عشوائيات مر بها الزمن مثل عاصفة فانطفأ بريقها ولم يعد التاريخ قادرا على أن يشفع لها في مواجهة عالم يتغير بسرعة.

لا يملك العالم أن يوقف حركته من أجل السؤال عن سلامتنا.

وإذا ما كانت الجماعات الإسلامية قد نشطت من أجل إفراغ عقولنا من كل مغريات الدنيا فإن ما تُسمى بالأحزاب الوطنية والتقدمية قد وضعت كل مشاريعها القديمة على الرف مستسلمة لخوائها الذي هو فضيحة فشلها لا في الاستيلاء على السلطة، ولكن في الوصول إلى العقول ببرامج تنوير تنجو بالمجتمعات من السقوط في مستنقعات الجهل.

وبالرغم من كل ذلك الكسل التاريخي فإن هناك من لا يزال يراهن على الوقت باعتباره مصفاة. وهو رهان خاسر. ذلك لأن ما تبقى من الحديث سيكون أسوأ وأن ما بقي من الحكاية لن يكون أجمل مما مضى منها. ذلك لأن النخب التي في إمكانها أن تحدث تغييرا قد اختفت. لم تُهزم، بل تم محوها من خارطة التحولات. ما كان يُقال عن أن الصحيح هو الذي سيصح لا يمكن أن يكون صحيحا في حالتنا. كل المعادلات القديمة لم يعد لها مكان في واقع صار الرعاع سادته. ألم تكن الأحزاب اليسارية تخطط لحكم الجماهير؟ تلك بلاغة مضللة دفع العالم العربي ثمنها المكلف حين ارتضى أن يستسلم لمغامرين لم تكن علاقتهم بالعالم الخارجي حسنة فخاضوا الحروب واستدعوا الغزاة وتركوها أطلالا.

ومن العجب أن دعاة التقدم قد فقدوا رشدهم حين تمسكوا بالحتمية التاريخية وهو مفهوم مستلهم من الماركسية التي صار من الصعب العودة إليها في ظل انهيار التعليم في مختلف المجتمعات العربية. لسنا في حال يدعو إلى العودة إلى القراءة.

سيكون هناك للحديث بقية دائما.

"العرب اللندنية"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى