​العلاقات السوفييتية مع جنوب اليمن.. الدعم والعزلة

> تقرير/منير بن وبر

> لا تزال الأسباب التي أدت إلى تفكك الاتحاد السوفييتي محل نقاش، لكن بعض الآراء السائدة تشمل طبيعة النظام الاقتصادي السوفييتي الهش، والأعباء الثقيلة التي تحملها السوفييت في الخارج لدعم مجموعة كبيرة من الحلفاء، لم تكن اليمن -شمالًا وجنوبًا- سوى واحدة من الدول الكثيرة التي سعت موسكو إلى دعمها استجابة لسياسات الإتحاد السوفييتي في حقبة الحرب الباردة.

وعلى الرغم من ارتباط عدن بالاتحاد السوفييتي فكريًا وسياسيًا واقتصاديًا حتى عام 1990م، واشتهار هذه الدولة بالماركسية والاشتراكية، فإنه تجدر الإشارة إلى أن شمال اليمن أيضًا كان على علاقة وثيقة بالاتحاد السوفييتي خلال الستينات من القرن الماضي لنفس الأسباب التي قادت موسكو إلى الارتباط بالجنوب، ففي كتابه "اليمن واليمنيون في ذكريات دبلوماسي روسي" ، يقول د.أوليغ بيريسيبكين: "إن سياسة دعم وتأييد اليمن (الجمهورية العربية اليمنية، أو شمال اليمن حينها) ناتجة من المبادئ الفكرية للحزب الشيوعي السوفييتي الذي رأى في دول العالم الثالث حليفًا له في حربه ضد الإمبريالية والاستعمار والرجعية"  وفي سبيل ذلك، تلقى شمال اليمن دعمًا قويًا في حربه ضد النظام الملكي، إضافة إلى الدعمَين المالي والاقتصادي وغيرهما من أشكال الدعم.


التأثير الثقافي والعلمي

بعد استقلال عدن عن الاستعمار البريطاني في عام 1968م بدعم وتأييد مصري وسوفييتي وشعبي، اتجهت الدولة الوليدة إلى الإتحاد السوفييتي لتعويض النقص الحاد في الموارد والإمكانات، بالذات مع استحالة الحصول على المساعدات المالية من الدول الغربية والعربية المناهضة للاتحاد السوفييتي، ولم يكن العون المقدم اقتصاديًا فحسب، بل أيضًا كان هناك اهتمام خاص بالمساعدات التعليمية والثقافية.

في كتابه "عدن التاريخ والحضارة" يقول علي ناصر محمد، الذي شغل عدة مناصب، بينها رئيس البلاد سنة 1980م"إن السوفييت قد أسهموا طوال عقدَي السبعينيات والثمانينيات في تعزيز الجوانب التربوية والصحية والهندسية والعسكرية كافة، وهو ما مكَّن الدولة من التغلب على مختلف الصعوبات والعقبات".

ينبع الاهتمام بالتعليم والتربية والثقافة والفنون وبناء الدولة المدنية في عدن من تاريخ طويل من الاهتمام بهذه المجالات، ولا شك أن للوجود البريطاني الذي استمر أكثر من مئة عام الدور الأبرز في الازدهار الثقافي والفني. يقول الدبلوماسي الروسي د. أوليغ بيريسيبكين، متحدثًا عن لقائه الأول بعبدالفتاح إسماعيل، أول زعماء الحزب الاشتراكي اليمني، "إن إسماعيل تحدث عن ضرورة تنمية وتطوير النظام التعليمي والصحي، واستحداث قطاع اقتصادي حكومي، ولم يتطرق قط إلى طلب مساعدات اقتصادية وعسكرية، وهو ما يدل، حسب بيريسيبكين، على فطنته وحدة ذكائه وحنكته السياسية".

أدى الدعم السوفييتي إلى تنشيط الحركة الثقافية والعلمية، وذلك من خلال عدد كبير من المنح الدراسية في الاتحاد السوفييتي ودول المعسكر الاشتراكي عمومًا. كما تطورت الطباعة والنشر والمسرح والإذاعة والتليفزيون والفن والغناء الشعبي، حيث كانت الدولة تُولي اهتمامًا خاصًا بكل هذه المجالات، وإشراك المرأة في مختلف نواحي الحياة السياسية والثقافية والعلمية، حتى ظهرت الكثير من النساء الرائدات.


الصراع والخلاف

على الرغم من الدعم السوفييتي لثورة اليمن ضد النظام الملكي في الشمال ودعم ثورة عدن والجنوب ضد الاستعمار البريطاني، فإنه، في نهاية المطاف، كان الجنوب هو الدولة الوحيدة التي تبنَّت النهج الاشتراكي، وبحلول أوائل السبعينيات أصبحت عدن والجنوب دولة ماركسية خالصة، وقامت بإعادة هيكلة الاقتصاد والمجتمع وفقًا للأسس الشيوعية.

لكن التبنِّي للفكر الاقتصادي والسياسي والفلسفي الغير مألوف والمشوب بالعيوب -من وجهة نظر الكثيرين- له عواقبه، وكان لذلك دور في ظهور الخلافات المبكرة بين التيارات المختلفة.

يقول المؤلف علي الصرّاف في كتاب "اليمن الجنوبي.. الحياة السياسية من الاستعمار إلى الوحدة" بأنه منذ مطلع عام 1963م ظهرت في صفوف بعض قطاعات "حركة القوميين العرب" بوادر أولية لتمايزات فكرية وسياسية تميل نحو الماركسية، خصوصًا بين الشباب المنحدرين من أصول عمالية كادحة وبرجوازية صغيرة.

أدَّت التباينات الفكرية بين القادة، وحتى بين فئات الشعب، إلى مزيد من الخلافات والاضطرابات، فمرة تخرج المظاهرات الشعبية المنادية بالرأسمالية والتوجه نحو الغرب بدلًا عن الاشتراكية، وأخرى يكون الصراع بين القيادة السياسية والحزبية نتيجة اختلاف التوجهات الفكرية بين القومية الاشتراكية المعتدلة التي تفضل الإبقاء على البُنى الاجتماعية والاقتصادية السائدة، والتبنِّي المتشدد لمبادئ القومية والاشتراكية، كما أن تبني الشعارات السوفييتية المعادية لما عُرف بـ ”الإمبريالية والرجعية" وتَّر علاقة الجنوب بدول الجوار، شمال اليمن وعمان والسعودية، وأسهم في العزلة الإقليمية للنظام.

كانت الانقسامات الأيديولوجية والتنظيمية سببًا رئيسًا لعدم الاستقرار، فعلى سبيل المثال كان عبدالفتاح إسماعيل المنظِّر الرئيس للحزب الاشتراكي اليمني والقوة الدافعة نحو الإتحاد السوفييتي في بداية السبعينيات، لكن وبحلول نهاية ذلك العقد، واجهت إسماعيل معارضة من حليفه السابق سالم ربيع علي، الذي فضَّل التوجه نحو السياسات والأفكار الصينية، ثم، خلال عقد الثمانينات، أسس علي ناصر محمد نظامًا سياسيًا واقتصاديًا أقل تزمتًا مع توجهات واضحة نحو المعسكر الغربي، لكن ذلك قاده إلى المزيد من الخلافات والصراعات الفكرية والشخصية.


التغييرات الجذرية

في الثمانينيات من القرن الماضي تولى ميخائيل غورباتشوف، منصب رئيس الحزب الشيوعي السوفييتي ثم رئيس الدولة، وقد أدى دورًا محوريًا في نهاية الحرب الباردة، إذ كان يرى بأن الإتحاد السوفييتي لا يمكنه المنافسة عالميًا ما لم يتغير جذريًا من الداخل، وهذا ما قاد غورباتشوف إلى ما اصطلح عليه بـ”البيريسترويكا"، التي تشير إلى إعادة الهيكلة الاقتصادية والسياسية.

كان من نتائج السياسات السوفييتية الجديدة -ومساعي غورباتشوف- التخلي عن دعم الإتحاد السوفييتي لحكومات وسياسات عدد من دول أوروبا الشرقية، التي كان بعضها مصادر جنوب اليمن الرئيسية للمساعدات المالية والتقنية والتعليمية والموظفين. كانت السياسات السوفييتية الجديدة مؤشرًا واضحًا على زيادة العزلة بالنسبة إلى دولة جنوب اليمن، وقد أسهم ذلك في تسريع الوحدة مع شمال اليمن في عام 1990م. دعت الشروط النهائية للوحدة إلى الاندماج الكامل للدولتين وخلق نظام سياسي قائم على الديمقراطية التعددية، لكن لم تمضِ سوى فترة وجيزة حتى ساد اعتقاد واسع بعدم نضوج الفكرة، وأسهمت عوامل اقتصادية وفكرية واجتماعية في بروز تحديات عدم الاستقرار التي تُوجت بحرب صيف 1994م.

أسهمت العلاقات السوفيتية مع جنوب اليمن وإرث الاستعمار البريطاني لعدن في بناء دولة مدنية وخلق النظام والقانون في جنوب اليمن، لكن تلك العلاقات أسهمت أيضًا -من جانب آخر- في عزلة البلاد إقليميًا والتأثير سلبًا، في كثير من النواحي، على العلاقات والبُنى الاجتماعية الداخلية، فكان كل ذلك يمثِّل تحديات جسيمة بالنسبة إلى دولة وليدة.

*"كيو بوست"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى