ثلاثيات: الحوار الوطني الجنوبي

> غالباً ما نسمع ويصل إلى أذهاننا مصطلح "الحوار البناء"، الأمر الذي يعني أن مصطلح الحوار لفظة تتضمن في معناها عملية بنائية غايتها إنجاز بنيان محدد، والبنيان له أساس وأعمدة وسقف، ثلاثية تقوم على حسابات دقيقة في العلاقة بين الثابت والمتغير، بين الوجود والوظيفة (بين وجود الأشياء ووظائفها).

هذا الفهم والمنطق الذي يقوم عليه يمكن إسقاطه على البنيان الجغرافي والاجتماعي والسياسي لشعب الجنوب، فحاصل جمع الأرض وسكانها يسمى الشعب، حيث ان الأرض المحددة تمثل عين الملكية وسكان هذه الأرض بأجيالها المتعاقبة المالك الحقيقي لهذه الأرض والعلاقة بين الأرض وسكانها تنتج الهوية الوطنية، مثلما هو حال العلاقة بين الابن وأبويه تكسب الإنسان الفرد هويته الشخصية، بحسب انتماء الأبوين تتحدد الهوية الشخصية وبحسب الانتماء للأرض وسكانها تتحدد الهوية الوطنية، وعليهما معاً تتحدد الحقوق الخاصة والعامة.

ترتبط الحقوق الخاصة بالملكية الخاصة للأسرة وأفرادها، فيما ترتبط الحقوق العامة بملكية الشعب لأراضيه أو ما يطلق عليها اصطلاحاً " منطقة السيادة"، الحق الخاص، حق قابل للتصرف، والحق العام (ملكية الشعب أو السيادة)، حق غير قابل للتصرف تتوارثه الأجيال المتعاقبة من أبناء الشعب ما بقيت الحياة على الأرض.

للسيادة جانبان، جانب وجودي وجانب وظيفي، ففي بعدها الوجودي يقوم عليها الشعب وبنيانه الاجتماعي والسياسي، أما في بعدها الوظيفي يدخل القادرين على الفعل من أبناء الشعب في علاقات متعددة مع الأرض المحددة (السيادة) بغية إنتاج القوة بكل أنواعها وأشكالها القادرة على تلبية الاحتياجات المتعددة اللازمة لمتطلبات البقاء، يمهد كل ذلك لتشكل القطاعات الوظيفية التي بتكاملها يقوم البنيان الاجتماعي (المجتمع) بوصفه مقدمة ضرورية لظهور البنيان السياسي (السلطة ومؤسساتها).

على هذا النحو يصير الأمر واضحاً أن الشعب يمثل لحظة اقتسام الحق في الأرض بين الشعوب، تتحدد بهذه العملية وترسم حدود السيادة لكل الشعوب، أما المجتمع فيمثل لحظة بناء القوة اللازمة لتأمين متطلبات الحق الطبيعي لكل شعب (حق الوجود والبناء)، فيما تمثل السلطة لحظة تجسيد القانون المتناغم مع الحق وتحقيق العدالة.

أن مجموع هذه الحقائق (المسلمات) تمثل ثوابت الحق الوطني لكل شعب وهي محور الاتفاق الداخلي بين أبناء الشعب ومكوناته ، فالاختلاف حولها غير مسموح، يَقِر ويعترف بها الجميع وتُعد الأساس المرجعي الذي تقوم عليه وتنطلق منه عمليات الحوار الوطني وإجراءات حل وتسوية الخلافات والمشاكل الداخلية لأي شعب، يتساوون الناس في هذه الحقوق وبها يكتسبون حق المواطن.

يُستخلص من ذلك أن الجغرافيا والاجتماع والسياسة هي المساحة التي يتحرك فيها الحوار الوطني الجنوبي، تتحدد فيها محاوره وموضوعاته المتمثلة بثوابت الهوية والسيادة وتقرير المصير، ثوابت الحق والقوة والعدالة.

تحدد هذه الثوابت منطلقات الحوار وغاياته، بداياته ونهاياته، أساسه وأعمدته وسقفه، الأمر الذي يعني أن الغاية القصوى للحوار الوطني الجنوبي هي الوصول إلى اتفاق كل الجنوبيين على إعادة وضع شعبهم وثوابته الوطنية بأبعادها الجغرافية والاجتماعية والسياسية في مداراتها الطبيعية، مدارات الهوية والسيادة وتقرير المصير بحدودها الدولية المعترف بها وإخراج شعب الجنوب من نفق التشظي إلى ساحة التسامح والوحدة الوطنية ودفعهم إلى السير في مسار واحد صوب استعادة دولة الجنوب الوطنية المستقلة.

سير الجنوبيين في هذا المسار، تطلب وقت طويل اتبعت فيه آليات الحوار الوطني الجنوبي الذي تدرَّج عبر مجموعة من المحطات:

1- المحطة الحوارية الأولى: ويمكن تسميتها بمحطة حوار الثوابت الوطنية لشعب الجنوب، وهي ثوابت تقر بها وتقوم عليها شعوب العالم كله، ومبادئ ثابتة ارتضتها الشعوب ودولها الوطنية، يقوم عليها النظام الدولي وتشريعاته (مبادئ الهوية والسيادة وتقرير المصير) وأي محاولة للإخلال بها أو الخروج عنها هو خروج عن النظام الدولي وقوانينه، ومن ثم فالحوار في هذه المحطة كرس للإقرار بهذه الثوابت والإقرار بتساوي أبناء الشعب بكل مكوناته الجغرافية الادارية والاجتماعية في ممارسة هذه الحقوق واعتبارها الاساس المرجعي لمسارات الحوار اللاحقة.

2-المحطة الحوارية الثانية: وهي محطة ترميم الأضرار التي لحقت بشعب الجنوب، وبوحدته الوطنية جراء انتهاج سياسة خاطئة في التعامل مع هذه المبادئ، وما ترتب على هذه الأخطاء من فقدان الشعب لهويته وسيادته وتقرير مصيره، ويشمل ذلك حوار التسامح والتصالح واستعادة الوحدة الوطنية للشعب وترميم جسور التواصل بين محافظات الجنوب ومديرياته.

أن ما جرى ويجري مع شعب الجنوب والعديد من الشعوب العربية الأخرى هو عملية هدم لبعض أجزاء البنيان العالمي، فأهتز بفعل ذلك الأمن والاستقرار المحلي والإقليمي والدولي، وتبنى شعب الجنوب قضية استعادة دولته الوطنية المستقلة وإعادة بناء هياكلها الوطنية وتشريعاتها هو تبني لإعادة بناء ما تم هدمه من أجزاء في البنيان العالمي واستعادة التوازن المنهار وتأسيس جديد للاستقرار والسلام في هذه المنطقة من العالم، الأمر الذي يعني استعادة التناغم والموائمة بين مكونات البناء العالمي.

مر الجنوب في تاريخه السياسي المعاصر بثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: جنوب ما قبل 1967 (جنوب مفكك، سلطنات، إمارات مشيخات).

المرحلة الثانية: جنوب موحد بوحدة قائمة على الأيديولوجيات، مرحلة اتصفت بأبواب الصراع المفتوحة بفعل تأثير المعتقدات الأيديولوجية المتصادمة.

المرحلة الثالثة: بوصف الأيديولوجيا عابرة للحدود، فقد انتهت بجنوب منصهر في يمن قائم على الوحدة الأسمية التي لا أساس لها في الواقع الفعلي.

والهدف الاستراتيجي الاسمى ليس العودة إلى الجنوب المفكك ولا إلى جنوب الوحدة القائمة على الايديولوجيا ولا إلى الجنوب الذي جرى تذويبه وصهره في الوحدة الوهمية مع اليمن، بل العودة الى جنوب الهوية المستقلة والوحدة الوطنية، جنوب السيادة وتقرير المصير، جنوب الدولة الوطنية المستقلة بحدودها الدولية المعترف بها قبل مايو 1990م، جنوب الحلقة الراسخة في البناء الشرعي العربي والدولي.



3- المحطة الحوارية الثالثة: وهي محطة كرست للاتفاق على تصويب المسارات وآلياتها، اتجهت صوب إصلاح العلاقة مع شعب الشمال ودولته وإعادتها إلى مدارها الطبيعي بوصفها علاقة بين شعبين ودولتين متجاورتين، ووضع نهاية لفكرة الواحدية اليمنية وهدم كل الأفكار التي بنيت عليها وكانت سبباً في تزييف الوعي وحقائق الواقع وصنعت الكثير من المفاهيم المخادعة التي أسست لسياسات خاطئة رفضها الواقع محدثة كل هذه الكوارث التي شهدتها البلاد خلال العقود الأربعة الماضية.

كما شملت هذه المحطة أيضاً الاتفاق على آليات الفعل الشعبي والاجتماعي والسياسي، كان أبرزها الحراك الشعبي الجنوبي بشقيه السلمي والعسكري وما نتج عنه من تحرير لمعظم أراضي المنطقة السيادية لشعب الجنوب.



4- المحطة الحوارية الرابعة: وتعرف هذه المحطة بمحطة ثوابت السياسة وبنيانها وآلياتها بأبعادها الداخلية والخارجية وهي محطة تهتم برسم سيناريوهات العبور من مربع الثورة إلى مربع الدولة، دشنت بحوار تأسيس المجلس الانتقالي الجنوبي بوصفه قيادة وطنية انتقالية تقود عبور الشعب الى الدولة، وبموازاة ذلك يتم استكمال تحرير ما تبقى من أجزاء المنطقة السيادية لشعب الجنوب وفرض سيادته الكاملة على أرضه واستعادة تدريجية لكامل القرار السيادي المستقل للشعب، مفتاح بوابة إعادة إعلان دولة الجنوب على كامل أراضيها الممتدة من باب المندب غرباً إلى المهرة شرقاً على الحدود مع سلطنة عمان، حدود ما قبل مايو 1990م.

كما ينبغي الإقرار أن المسار العام للمشروع الوطني الجنوبي يمر بمرحلتين: مرحلة استعادة الدولة، ومرحلة إدارة الدولة، ولكل مرحلة أدواتها وآلياتها، فالوحدة الوطنية لشعب الجنوب وتكامل وتعاون القطاعات الوظيفية للمجتمع تمثل أداة وآليات الفعل الشعبي والاجتماعي الموجه صوب استعادة الدولة (هوية وسيادة وتقرير مصير)، بوصفها مغتصبة من قبل الآخر الخارجي وشعب الجنوب ينبغي أن يكون واحد أمام الآخر، ويخوض النضال من أجل تحقيق أهداف مشروعه الوطني بإرادة سياسية واحدة وتحت قيادة سياسية وطنية واحدة تدير الشعب والمجتمع بكل قواه الفاعلة وتوجيهها صوب الهدف الوطني الكبير المتمثل باستعادة الدولة الوطنية المستقلة، في هذه المرحلة تنتفي الحاجة لظهور أحزاب التعدد السياسي فهي أداة من أدوات إدارة الدولة وهي مرحلة لم نبلغها بعد، ثم أن ظهور أحزاب التعدد السياسي لها شروطها وأهمها:

1- الإقرار الداخلي والاعتراف الخارجي بالهوية الوطنية المستقلة لشعب الجنوب.

2- سيطرة الشعب الكاملة على المنطقة السيادية بحدودها الدولية المعترف بها.

3- توفر الشروط الكاملة لممارسة حق تقرير المصير من قبل الشعب دون عوائق.

4- نظام دستوري وقانوني لدولة الجنوب تلتزم به ولا تتجاوزه، البرامج السياسية لهذه الأحزاب، ينظم نشاطها وآليات وحدود التنافس بينها على السير في أفضل الطرق لإدارتها.



أما في ظل غياب هذه الشروط تنتفي الحاجة لظهور التعدد الحزبي وتستمر أفعال الأفراد والشخصيات بحسب الهوية والانتماء (انتمائهم للشعب وللقطاعات الوظيفية التي يعملون بها).

كل ذلك ينبغي أن يشكل الأسس التي تتقيد بها عمليات الحوار الوطني الجنوبي في كل مراحلها المرتبطة بمسار استعادة الدولة، وترك التعامل مع ظاهرة التعدد الحزبي الى حين اكتمال شروطها في المسار الخاص بإدارة الدولة بعد أن تصبح دولة الجنوب حقيقة قائمة بأبعادها الداخلية والخارجية.

وبموازاة كل ذلك تتفعل مسارات التفاوض الخارجي مع الأطراف الإقليمية والدولية ومع مؤسسات الشرعية الدولية والمنظمات الإقليمية بغية الوصول الى تجديد الاعتراف الخارجي بدولة الجنوب وإعادة تفعيل وضعها الحقوقي والقانوني في مؤسسات الشرعية الدولية عضواً كاملاً كما كانت قبل مايو 1990م.

*أستاذ الفلسفة السياسية المساعد كلية الآداب- جامعة عدن.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى