بكين تخنق واشنطن في الرياض

> د. ماجد السامرائي

> ​الذي حصل في الفترة الأخيرة يشكل اختراقا عميقا في جدار بنيان العلاقات السعودية – الأميركية، والأمثلة على ذلك كثيرة، مثل عدم الخضوع لإملاءات واشنطن في زيادة إنتاج النفط بالاتفاق مع أوبك بلاس، والانطلاقة في العلاقات الدولية تحت إدارة الشاب الطموح ولي العهد الأمير محمد بن سلمان باستقلالية كانت محبوسة في أدراج قصور الرياض لعقود طويلة.

الحقائق السياسية الجديدة تشير بوضوح إلى عهد سياسي سعودي جديد ينطلق من رؤية إستراتيجية استقلالية جديدة يبدو أن الطريق قد انفتح إليها بمساندة وتأييد خليجيين، وآخرها الزيارة غير التقليدية للرئيس الصيني إلى الرياض وعقد ثلاثة مؤتمرات جمعت الرئيس الصيني والوفد المرافق له مع الخليجيين وأهم العواصم العربية لبحث آفاق المصالح العربية – الصينية.

حاولت واشنطن التخفيف من وطأة هذه الزيارة بتبريرات دبلوماسية متوقعة واطئة الإقناع. البيت الأبيض ليس مندهشا من قيام الرئيس الصيني بزيارة السعودية لأن بكين “تعمل على زيادة نفوذها في الشرق الأوسط”. وهو ما أكده جون كيربي منسق الاتصالات الإستراتيجية في مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض مضيفا “إذا أراد أصدقاؤنا وشركاؤنا في الشرق الأوسط مقابلة الرئيس شي جينبينغ والتحدث معه حول مجموعة من القضايا، فمن المؤكد أن هذا حقهم، ونحن نحترم ذلك. ما تركز عليه الولايات المتحدة هو علاقاتها ومصالحها الأمنية في الشرق الأوسط على المستوى الثنائي والمتعدد الأطراف”.

واعترف كيربي قائلا “نحن ندرك التأثير الذي تحاول الصين أن تعمقه في جميع أنحاء العالم، والشرق الأوسط هو بالتأكيد أحد تلك المناطق التي يريدون تعميق مستوى نفوذهم فيها”. لكن كيربي على طريقة الساسة الأميركان، يواجه الصدمات السياسية بأساليب ملتوية كانت تمرر في العقود السابقة، لكن وضع السعودية ومنطقة الخليج اليوم مختلف كثيرا.

هذه واحدة من أهم التداعيات التي خلفتها السياسة الأميركية غير الموضوعية تجاه شراكة عقود من المصالح بين واشنطن والرياض والمنطقة. ذلك أن الصين، التي بررت واشنطن انسحابها من العراق والمنطقة للتفرغ لها، هي المعنية لكي تجابه واشنطن في حضورها الهادئ للرياض والمنطقة.

زيارة الرئيس الصيني هذه، حتى في بروتوكولها الدبلوماسي، ليست كزيارتي الرئيسين الأميركيين دونالد ترامب التي كانت بهدف الابتزاز المالي، أو الرئيس الحالي جو بايدن الذي توهم أنه بضغطه بورقة حقوق الإنسان الممزقة قادر على أن يذعن الرياض لواشنطن. ذلك كان في الماضي، الآن الصين هي أكبر شريك تجاري للمملكة العربية السعودية.

التقاليد الدبلوماسية السعودية تاريخيا غير استفزازية. فهي لا تحاول الإيحاء لواشنطن بأن خطواتها في السياسة الخارجية باتت تبتعد عنها، أو ضد مصالحها. ولكن في حقيقة الأمر هي كذلك.

قمة الرياض – بكين الأخيرة تطور مهم لا تخفف من تداعياته ما قرأناه لكتاب سعوديين حاولوا اختيار العبارات الدبلوماسية غير المناسبة للرأي الصحفي السعودي الحر. مقالات تهدف لتخفيف وقع الصدمة الأميركية والانحياز غير المبرر لواشنطن حتى وإن كانت ذات لغة دبلوماسية لا تناسب الكتابة الصحفية. هؤلاء الصحافيون المحبون للولايات المتحدة سبق أن كانت لديهم تبريرات واهية للعدوان الأميركي على العراق وقتل مئات الألوف من أبنائه، وهم يغضون الطرف الآن عن السياسات الأميركية الاستفزازية حتى ضد بلدهم.

بالمقابل، عبر الأمير محمد بن سلمان بوضوح عن نظرة الرياض تجاه إدارة بايدن، في علامة على الغضب من الانتقادات الأميركية لسجل الرياض في مجال حقوق الإنسان. قال الأمير محمد لمجلة ذا أتلانتك في مارس الماضي إنه لا يهتم بما إذا كان الرئيس الأميركي قد أساء فهم أمور تتعلق به و”أن على بايدن التركيز على مصالح الولايات المتحدة”.

تاريخيا كان قادة الصين أشخاصا غير مرغوب فيهم في المملكة العربية السعودية المعادية للشيوعية. في ذلك الوقت استثمرت واشنطن هذا الجانب العقائدي في تنفيذ سياساتها في أفغانستان (القاعدة) وإخراج الاتحاد السوفييتي منها ضمن مشروع إسقاطه، وهو ما حصل بسهولة.

لكن هذا الجانب العقائدي المتعلق بالتزامات الصين ضد “الإمبريالية الأميركية” أصبح له انعكاس على السياسات الجديدة ومشاعر العرب المُحبطة من الولايات المتحدة في مواضع عدة، أهمها الموقف الأميركي المهادن والمشجع لسياسات نظام ولي الفقيه التخريبية في الخليج والعراق، كذلك في القضية الفلسطينية.

العرب رغم اندفاعهم في علاقاتهم بواشنطن التي تحولت إلى تبعية خلال الحرب الباردة لديهم مشاعر داخلية عكست إرهاصات شعوبهم التي لا يمكن تجاهلها في العقود الأخيرة بأن واشنطن في ابتزازها المالي والسياسي قد خذلتهم في مواقع كثيرة، لهذا نمت نظرية أن الصين تدعم العرب خارج نطاق السياسات التجارية؛ عنصر يبدو أنه يتحرك خلف ستار السياسات الصينية العامة.

الصين ذات المليار ونصف المليار ساكن، والنظام الشيوعي الذي وجد قادته المجددون أن العالم لم يعد بحاجة إلى صراع أيديولوجيات ماو تسي تونغ، إنما بانفتاح جينبينغ الناقد للصراعات الأيديولوجية والقطبية المتزمتة، بلد يعتمد على العلاقات التجارية متعددة الوجوه. قوة جديدة حولت البلد الكبير إلى كرة من الطاقة البشرية المتجددة خارج أسوار الصين، تعمل ببطء وهدوء لإحياء ما سمي بطريق الحرير القديم تحت عنوان “الحزام والطريق”، الذي يجعل من بلدان النفط وفي مقدمتها العراق، ضمن أولويات إستراتيجيتها الناعمة.

النمو الثوري للصين وفق السياسة الملساء، أقلق واشنطن ليس على مستوى تفوق القوة العسكرية التي مازالت تتمتع بها الولايات المتحدة، لكن على المستوى التجاري الجانب الأخطر في مستقبل البشرية. ظهر جيل من القادة الصينيين يتعاطون بمرونة عالية ويتغلغلون في أحشاء العالم النامي الجديد خصوصا منطقة الشرق الأوسط والعراق بشكل خاص.

قد تُفهم حتى في العموميات دلالات الانسحاب الأميركي من العراق والمنطقة كتبرير لإيقاف نزيف الخسائر المادية والعسكرية الأميركية، وليس تكفيرا عن ذنوب تاريخية اقترفت ضد شعب العراق ونظامه السياسي قبل 2003 الذي لم يوجه سهام العداء والاحتراب ضد الولايات المتحدة مثلما تفعله اليوم طهران.

التناقض الأكثر سذاجة عدم استيعاب أو الإحاطة ببرنامج المواجهة الصينية الأخطر على الإستراتيجية الأميركية في العراق، الذي تركته واشنطن لطهران وبكين وموسكو دفعة واحدة، وتقديم الخطر الروسي على أهميته في أولويات الصراع لمستوى تحشيد العالم الغربي في معركة خسرتها شعوب دوله غذاء وأمنا في أوكرانيا.

الجمود الغبي لإدارة أوباما ثم بايدن تجاه سياسة الصين في العراق، منع عنهما الرؤية الدقيقة للمصالح الأميركية من الزاوية الصينية، فقد رمت تلك السياسات العراق في حضن الصين عبر التعجيل بتوقيع الاتفاقية الصينية – العراقية “النفط مقابل الإعمار”. لكن الأخطر تلك الخطوات السعودية – الصينية الجديدة. صحيح يقال عنها في الإعلام المصالح التجارية المشتركة وليس محورا أو استقطابا ضد الولايات المتحدة، ولكن الواقع يقول إنه تطور إستراتيجي مهم وضع واشنطن في مأزق وهو ما جنته سياساتها تجاه الرياض والمنطقة.

محاولات يتيمة بائسة لتبرير تلك السياسات من بينها إصدار تقارير ذات أبعاد تسمى سياسات إستراتيجية لإدارة بايدن، أبرزها التقرير الإستراتيجي الذي صدر قبل عدة شهور وقال الرئيس الأميركي إنه سيحميه أو قد حماه من المساءلة ضمن حالة التقييم وانتخابات أعضاء الكونغرس النصفية، فالتقرير الصادر عن إدارته فيه ابتعاد وتراجع عن المتطلبات الإستراتيجية الخارجية الأميركية الثابتة.

في هذا التقرير لم تعد الولايات المتحدة قائدة العالم الحر، وهو إقرار واعتراف بتعدد القوى الكبرى “لا نعتقد أنه يجب إعادة تشكيل الحكومات والمجتمعات في كل مكان على صورة الولايات المتحدة حتى نكون آمنين”. بوضع روسيا كخصم إستراتيجي مباشر تجد الإدارة الحالية أن حربها ضرورة إستراتيجية، مع أنها ليست كذلك. يعترف التقرير بأن الصين تسعى إلى نظام عالمي متعدد جديد عبر القوى الدبلوماسية والاقتصادية والتكنولوجية.

تقول الإدارة الحالية “إستراتيجيتنا متجذرة في مصالحنا الوطنية وهي: حماية أمن الشعب الأميركي وتوسيع الازدهار الاقتصادي والفرص وتحقيق القيم الديمقراطية الكامنة في قلب أسلوب الحياة الأميركي والدفاع عنها. لا يمكننا القيام بأي من هذا بمفردنا ولا يتعين علينا ذلك. تحدد معظم الدول حول العالم مصالحها بطرق تتوافق مع مصالحنا. سنبني أقوى وأوسع تحالف ممكن من الدول التي تسعى إلى التعاون مع بعضها البعض، بينما نتنافس مع تلك القوى التي تقدم رؤية أكثر قتامة وتحبط جهودها لتهديد مصالحنا”.

رغم غياب اللغة الاستفزازية في البيان الصيني – العربي – السعودي المشترك، إلا أنه يخفي تحت لغته الدبلوماسية المختارة بدقة إشارات تبلور طموحات إستراتيجية مشتركة لا تتناسب مع سياسات واشنطن الخارجية بل ستكون مؤذية بالفعل لها. تحولات مهمة مثل هذه التحولات الكبيرة لا تظهر في لغة البيانات الصحفية.

تطور سريع في موقف سياسي مهم من تايوان، حيث قال العرب إنهم مع وحدة تايوان وعودتها لأهلها، وهذه ضربة سياسية عربية ضد واشنطن.

العلاقات السعودية – العربية – الصينية تدخل بعد زيارة الرئيس الصيني آفاقا إستراتيجية، حسب ما ورد في تصريح للرئيس الصيني الذي حرص على تجنب الاستفزاز باستخدام غلاف المصالح التجارية المتوازنة لبلدان المنطقة والصين. وكذلك هو الحال في جميع البيانات والتصريحات السعودية.

الحقائق السياسية تقول إن الطريق ينفتح بهدوء لخنق واشنطن في الرياض، بعد أن برر سياسيوها ورئيسها الحالي بايدن بأن انسحابهم من العراق والمنطقة بهدف التفرغ لمواجهة الصين وروسيا في مناطقهما الجيوسياسية. والنتيجة هي الخنق في منطقة حيوية.

العرب

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى