(قرنة) تهدم الأسوار من أجل (هضبة جحاف) التي عشقها (جاكوب ) البريطاني

> كتب / هاجع الجحافي

> رغم أنني لم أعد أرغب في الكتابة عن أمور كثيرة في حياتنا نظرا لأن الكثير مماحولنا أصبح مزيفاً ، وخاضعاً للأمزجة الشخصية والمزايدات الانتهازية ، التي خدمت الأعداء كثيرا أكثر مما تخدم أحلام ومصالح وطموحات الناس ، فتحولت الكثير من الفرص الى عثرات ، وتعمقت الفجوة بين الممكن والمستحيل ، وحوصرت العقول والكفاءات والخبرات لصالح عقليات اكثر فقرا واكثر ضيقا .. ولكن قرية (قرنة ) في مديرية جحاف بمحافظة الضالع ، فرضت عليَّ اليوم أن أكتب عن لحظة جميلة وصورة مشرقة التقطتها العدسات صباح اليوم، تستحق أن توثق وتسجل بحروف من ذهب.

قرنة .. اسم يعكس معاني جميلة، ففي قاموس المعاني والأسماء وقاموس العربية تعني زاوية الارتكاز ، وهي أيضا بمعنى المكان البارز من كل شيءٍ وهي حدُّ السيف، وحدُّ الرمح .

كما انها تعني قَرَنَ الشيء بالشيء بمعنى جمعه به، مثل قرن الحج بالعمرة أي وصلها .. وبالتالي ليس غريبا أن تجمع قرية( قرنة) أبناء جحاف وتوصلهم ببعضهم.

ومن دلالات هذه المعاني ليس غريبا على أهلنا وأحبابنا وإخواننا الأعزاء في قرية قرنة، أن يترجموا عمليا تلك المعاني والدلالات على أرض الواقع، وأن يبادروا بكل حب وصدق إلى التخلي عن بعض أسوار منازلهم وومتلكاتهم الخاصة من أجل مصلحة أجمل وأشمل وأكبر تجمعهم بكل إخوانهم في هضبة جحاف الجميلة الشامخة الصامدة في وجه كل التحديات والأعباء والظروف وضد كل قساوة الطبيعة وتعرجاتها الحادة .

وأنا اشاهد اليوم مبادرة أهلنا في قرنة إلى ازالة بعض اسوارهم أو أجزاء من أرضهم من أجل مصلحة كل جحاف، شعرت بفخر وكبرياء بهؤلاء الرجال، لأنهم استطاعوا إثبات أجمل صورة ستظل راسخة في الأذهان .. صورة مغايرة لكل من كان يعتقد أن قرنة ستكون ضد المصلحة العامة.

بل أن كل أبناء جحاف قد أثبتوا خلال السنوات الثلاث الماضية مدى حرصهم على التكاتف والوفاء والإخلاص حينما يتعلق الأمر بالمصلحة العامة وليس أدل على ذلك تلك التبرعات التي جمعوها من أجل نفس الحلم - حلم الطريق - سواء في المرحلة الأولى أو الثانية، وذلك بعد أن يأسوا من إمكانية استكمال الطريق ، وكأن الله تعالى قد استجاب لدعائهم وتضرعاتهم بتحقيق هذا الحلم بعد أن مروا بمرحلة اختبار للمسارعة في العطاء والسعي نحو الخير والمحبة ، بتقديم التبرعات للطريق أو لأصحاب الحالات الحرجة ، فبعث الله وكيلا من أقصى أصقاع الدنيا ، بعد أن ضاق الناس ذرعا من واقعهم المؤلم وحياتهم البائسة وهمومهم الجمة ، في ظل إطالة أمد الصراع والحرب وانهيار الاقتصاد والعملة وتحول الدولة إلى مجرد شبح يتقاسمه تجار الحروب لنهب وإفزاع الناس هنا أو هناك ، وتخلي شركاء دولة معاشيق عن أبسط واجباتهم تجاه الناس بحجة الصراع والحرب بينما لايتورعون عن نهب وتقاسم الدعم والهبات والمساعدات والنفط والموارد والوظائف والمناصب والمنح ، دون أي اكتراث للتضحيات الجسام التي يقدمها أبناء مناطقنا كل يوم في الضالع وغيرها من مناطق الجنوب الباسلة، ويكفي أن نقول أنه يكاد لايمضي شهرا دون أن يمر على هذه الطريق موكب شهيد إلى مثواه المشرف في تربة هذا الجبل الشامخ.

أحيي كل أبناء قرنة بشيوخهم ورجالهم ونسائهم وشبابهم وأطفالهم فردا فردا .. لأنهم يمثلون اليوم قدوة لكل أبناء جحاف، بل أن هناك من قد سبق وتخلى عن بعض أرضه في قرى أخرى من أجل الطريق والمصلحة العامة، وسيأتي اليوم - إن شاء الله - الذي يتم فيه تقدير وتكريم كل أؤلئك الأحبة في لوحات الشرف والإيثار والتضحية.

تحية تقدير خاصة للأخوة علي حرمل وعبده عبادي وخالد محمد عبادي وعصام أحمد علي وصلاح قائد صالح ، الذين بادروا حتى الان بتقديم ذلك الأنموذج المشرف، الذي أثمر إعجاب وتقدير كل الناس.

التحية أيضا تزجى من القلب لإخواننا أعضاء اللجنة المجتمعية جميعا وأتذكر منهم الأخ المدير العام صالح عبدالله الحاج والأخوة الأكارم عسكر ناجي محمد والنقيب عبدالله محسن جرجور وقايد حميد محسن وعلي ناشر حسن ومحمد علي زيد وصالح علي محسن ومسعد ناصر صالح ووليد عبدالله محمد وفضل علي محمد الشلن وأحمد حسن هريش ومحمد حمود محسن المولعي ومحمد حمود محسن القرضي.

وبالطبع الشكر موصول للأخ العزيز م. عبدالرحمن علي حمود (فريد) مدير مكتب الاشغال بالمحافظة وللأخوة المهندسين والمشرفين وللأخ المقاول ،وفوق كل ذلك شكرنا العميق للأخ العزيز الوزير الشيخ غالب مطلق صاحب الايادي البيضاء والجهود الخيرية والإنسانية الملموسة، والمعذرة إن كنت قد نسيت كل من يستحق أن نوجه له شكرنا وتقديرنا.

أستطيع الجزم أن القادم أجمل لأبناء جحاف جميعا ، لأن حلم عشرات السنين الذي ظل يراود ثلاثة أجيال يوشك أن يتحقق خلال الأشهر القادمة، والذي بتحقيقه سيفتح جحاف ذراعيه للضالع وعدن وكل مناطق الجنوب المجاورة كرئة ومصحة طبيعية تزهو بنسائم هواءها الذي يجدد ويبهج النفوس وبصيفه الماطر وإخضرار مدراجاته التي تقدم أجمل فرصة لكل من يبحث عن السياحة الريفية الممتعة وبمايسهم في توفير المزيد من فرص العمل وتحسين مستويات دخل الكثير من العائلات ، وتحسين الخدمات وتقريب المسافات والتواصل بين الناس ، وتوفير المزيد من النفقات في عمليات النقل والتنقل حيث أن أغلى تعرفة نقل في اليمن شمالا وجنوبا هي تعرفة النقل من الضالع إلى جحاف التي تبلغ ثلاثة آلاف ريال للراكب لمسافة لاتزيد عن 11 كيلومتر تقريبا بينما المسافة من الضالع إلى قعطبة تصل إلى أكثر من 20 كيلومتر والاجرة لاتزيد عن 300ريال تقريبا ، وهذا مجرد مثال لفهم حجم معاناة الناس هناك.

في الأخير أجد نفسي أتذكر قصة تعود إلى 120عاماً، وقعت أثناء مفاوضات الحدود بين الانجليز والأتراك ، وتحديداً في 1905م حينها وقف المؤرخ والقائد الانجليزي (هارولد جاكوب ) واتجه بناظريه نحو هضبة جحاف وعبر عن ندمه وهو يغادر الضالع الى عدن ، وكتب الكثير عن انطباعاته في كتابه الشهير (تاريخ ملوك وأمراء شبه الجزيرة العربية ) الذي قال فيه إنه فقط نادم على مفارقة هضبة جبل جحاف ووصفها بأنها ( أعظم مصحة طبيعية في الشرق الاوسط ) .

كان ذلك الكلام الجميل في زمن الاجداد ولم تكن هناك اي طرقات الى جبل جحاف ، وبعد أن قرأ الانجليز الكتاب سارعو إلى شق أو طريق ترابية وعرة إلى جحاف في خمسينيات القرن الماضي للإستفادة من من الهضبة عسكريا وكمصحة طبيعية سياحية من خلال اجازات تمنح للجنود والضباط المبرزين والملتزمين الذين يحلمون بزيارة المنطقة هروباً من جو ورطوبة عدن الحارقة .. وكانت السلطات الانجليزية تخطط لإنشاء أحدث المنشئات في جحاف وتحويلها إلى مصحة طبيعية وسياحية بإمتياز ولكن لم يسعفها الوقت نظرا لقيام حركة الكفاح المسلح التي توجت بطرد الانجليز وتحرير أرض الجنوب.

اليوم نستطيع القول لأحفاد(ياكوب) ان أحفاد اجدادنا باتوا على مسافة من تحقيق ذلك الحلم، الذي سيجعل هذه المصحة أقرب وفي إمكان كل من يرنو ببصره قادما إليها من بعيد ، دون أن يفكر بأي ندم مثلما فعل صديقنا القائد والمؤرخ البريطاني ياكوب ، والذي أحب جحاف بكل شغف .

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى