في الشرق الأوسط.. الطائفية تتحكم حتى في تحية الصباح

> حكيم مرزوقي/ كاتب تونسي

> ​خطاء ومغالطات بالمفرق والجملة يلاحظها المرء لدى التونسيين الذين يخوضون في الشأن المشرقي وقضايا الشرق الأوسط على وجه الخصوص. ينطبق هذا الأمر على العامة في المقاهي، كما النخب السياسية والثقافية التي تتصدر الجرائد والمنابر والبلاتوهات التلفزيونية التي تأخذ بظاهر الأشياء، وتغفل عن العمق والجوهر.

لا يتعلق الأمر هنا بجهل أو تقصير في الإحاطة بالملفات الساخنة بل على العكس، فالكثير من المحللين السياسيين الذين يخوضون في قضايا المشرق العربي يتمتعون بسمعة أكاديمية مرموقة، وسعة اطّلاع ومتابعة، لكن الذي غاب عنهم هو الإلمام بالتركيبة الاجتماعية والمنظومة الطائفية للمنطقة. وليس هناك من وسيلة لتقديم القراءات الماسحة ومن ثم إطلاق الأحكام المقنعة، سوى المعايشة.

من لم يعش لسنوات في منطقة الشرق الأوسط، ومن لم يطلع على أدق التفاصيل في العلاقات الاجتماعية التي تُبنى على أساسها سياسات تلك البلدان، لن يتسنى له فهمها، حتى وإن كان من جهابذة التحليل السياسي، والممسكين بمنطق ترابط الأحداث.

ما يخفى عن التونسيين وبلاد المغرب الكبير عموما، هو أن الأشياء في الشرق الأوسط لا تسير وفق القوانين السببية التي تسمح بها أبجديات القراءة العلمية، ولا التسلح بالاعتبارات التي تمليها مصالح القوى العظمى، ولا حتى خارطة الثروات وتوزيعها وكل ما يتعلق بالصراعات الاجتماعية والطبقية التي تتضمنها النظرية الماركسية.

اليافطات المرفوعة في الشرق الأوسط، وبلاد الشام على وجه الخصوص، ليست إلّا حالة من التتويه وإخفاء الأثر، فلا “الصمود والتصدي” يقصد معناه الظاهر، ولا “المقاومة” مقاومة للاحتلال في أعراف حزب الله، ولا “البعث” بعثا، ولا “التقدمية” تقدمية، ولا “الوطنيون الأحرار” وطنيين أحرارا.

ما نحاول الاستناد إليه هنا ليس أحكام القيمة المتعلقة بالنظرية الأخلاقية في فهم المشهد السياسي، وإنما هي بنية معرفية مستقلة بذاتها ومجردة عن أيّ ترابط أو تطور أو جدل تاريخي. وما يجهله التونسيون الذين يعيشون في مجتمع شبه متجانس على المستوى الإثني والديني والمذهبي، هو أن الخارطة الطائفية في بلاد الشام هي التي تتحكم في كل شيء، حتى في التحية بين الناس.

نعم، حتى في التحية بين الأفراد، فإذا دخلت مجلسا لا تعرف الخلفيات الطائفية للمجتمعين فيه، وجب عليك ألاّ تحييهم بتحية الإسلام أي “السلام عليكم” فلربما يشكل الأمر حالة استفزازية لغير المسلمين في المجلس، على اعتبار أن هذه التحية يقولها القوي المسلح للضعيف الأعزل.

إلى هذا الحد تحضر الخلفية الطائفية والمرجعية المذهبية في سلوك الناس، إلى درجة استخدامهم لكلمة “مرحبا” التي هي من أصل آرامي قديم، وتعني فيما تعنيه “محبة الله” بحسب المراجع الأنثروبولوجية والألسنية. هذا على مستوى أبسط التعاملات الاجتماعية بين الجار وجاره، الزبون والبائع، والمواطن مع المسؤول الإداري في دوائر الدولة، فما بالك في الحياة الحزبية والسياسية والإنتاجات الثقافية والفنية.

هل تعلم عزيزي التونسي الذي تتحدث مع أبناء بلدك بنفس اللهجة وتأكل معهم نفس الأطباق وتتشارك معهم نفس المقهى والجامع والمدرسة، وحتى الولاء للزعيم السياسي كما في تعلقك ببورقيبة.. هل تعلم أن هذا الأمر غير موجود في بلد مثل سوريا ولبنان.

هل أخذت هذا بعين الاعتبار أيها المحلل السياسي الهاوي أو المحترف، في الحانة أو في صفحات التواصل الاجتماعي، في الصحافة المكتوبة أو القنوات التلفزيونية؟

هل قرأ المحللون السياسيون شيئا من قبيل “الاختلاف في التحية بين الناس” في الجامعات والأكاديميات الأوروبية التي درسوا فيها؟ وهل يعلمون أن الحزب السوري القومي الاجتماعي مثلا، والذي أسسه أنطون سعادة، يقوم على خلفية مسيحية راديكالية مع بعض أبناء الأقليات الدينية غير السنية وقد جمّلها ببعض المحسنات والواجهات العلمانية. قس على ذلك في بقية الأحزاب والجمعيات، وحتى النوادي الرياضية والتجمعات الفنية.

لولا بعض الاستثناءات والحالات التي تُحفظ ولا يقاس عليها، لأمكن القول إن غالبية ما يحرك المشهد السياسي والاجتماعي، وحتى الثقافي في أحيان كثيرة، إنما يتأتّى من خلفية طائفية تُضاف إليها قوة النفوذ المالي فيما يعرف بـ”الإقطاع السياسي”. كيف نفسر زعامة عائلتي جنبلاط وأرسلان على المجتمع الدرزي في لبنان؟ وكيف نقرأ توارث بيت الجميّل على حزب الكتائب ذي الخلفية المارونية.. وكيف ننظر إلى التحالف الشيعي بزعامة حزب الله المدعوم من إيران، وهو الذي ضيق الخناق على الليبراليين الشيعة ولاحقهم إلى حد التصفية الجسدية.

الطائفة الوحيدة التي لم تتمترس خلف الكانتونات والميليشيات أثناء الحرب الأهلية اللبنانية هم السنة، لما لهم من ثقة في ثقلهم الديموغرافي، بالإضافة إلى اهتماماتهم المتركزة على الاستثمارات الاقتصادية، مما أكسبهم نزعة ليبرالية لم يفقدوها إلا مع مجيء التيارات السلفية والإخوانية.

التحالفات المبنية على خلفيات طائفية وإثنية ظلت وما زالت على مدى عقود، تؤثث للمشهد السياسي وتتحكم فيه عبر التقسيم الطائفي والامتيازات التي تمخّضت بموجبها.

هذا غيض من فيض، ومحاولة متواضعة لتقديم مسح سريع للخارطة الطائفية وما تحتويه من ألغام وفخاخ لا يعلمها الأغرار من المحللين السياسيين في بلاد المغرب.

العرب

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى