​التوازن الداخلي والشراكة الوطنية أعمدة بناء القوة لبناء التوازن الخارجي

>
​المتدبر والمتأمل في العشر الآيات الأولى من سورة الرحمن سيصل إلى نتيجة تكشف عن أهمية وخطورة آليات التوازن والميزان وارتباطها بالاستقرار وتلبية متطلبات الحياة واستقرارها، إذ قال تعالى في محكم آياته: ((ٱلرَّحمَٰنُ (1) عَلَّمَ ٱلقُرۡءَانَ (2) خَلَقَ ٱلإنسَٰنَ (3) عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ (4) ٱلشَّمسُ وَٱلقمَرُ بِحُسبَانٖ (5) وَٱلنَّجمُ وَٱلشَّجَرُ يَسجُدَانِ (6) وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطغَوۡاْ فِي ٱلمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُواْ ٱلوَزۡنَ بِٱلقِسطِ وَلَا تُخسِرُواْ ٱلمِيزَانَ (9) وَٱلأَرۡضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ (10) )) صدق الله العظيم.

إذ أن العِلم قَبلي له أسبقية على الخلق والتعلم بعدي يتبع الخلق، فالقول يسبق الفعل، نحن بني البشر أتينا إلى هذه الحياة مزودين بموهبة العقل والقدرة على التعقل، وبهما أسند لنا تكليف إدارة شؤون دنيانا.

إذا عملنا نظرة تأملية فاحصة لآلية عمل الميزان نجد أنها تحضر فيها ثلاث قضايا كبرى تمثل الأسس التي يقوم عليها البناء الإنساني بشقيه الوجودي والوظيفي، أنها ثلاثية الحق والقوة والعدالة، فبالحق يتأسس وجودنا وبالقوة نبقي وعلى العدالة يتوقف استقرار الحياة وتطورها، كما نجد أن البناء الإنساني بحلقاته الثلاث: الشعوب، الأمم، الكل الإنساني ليس إلا تجسيدا لثلاثية الحق والقوة والعدالة، فالشعوب تعبر عن الحق واقتسام الحق في الأرض بين البشر، والأمم واتحاداتها تمثل لحظة القوة الحافظة للحق "حق الشعوب المنضوية في تكوينها"، فيما الكل الإنساني ومؤسساته يمثل لحظة تحقيق العدالة، بالتوازن بين الشعوب تبنى الأمم وبالتوازن بين الأمم يقوم الكل الإنساني العالمي ويتحقق أمنه واستقراره.

تمثل الشعوب الحلقة الأصل في البناء الإنساني، منها وعليها يقوم ويتفرع البناء العالمي برمته، إن كانت هذه القواعد أي الشعوب متماسكة وصلبة في بنائها الداخلي تستطيع الصمود أمام الهزات والأعاصير والزلازل، وإن كانت هشة ينهار البنيان الواقف عليها، وما يهمنا هنا هو البناء الوطني الداخلي لشعب الجنوب وهل تحضر فيه رباعية التوازن الوطني الداخلي والشراكة والوحدة والعنصر الرابع ثمارها المتمثل بالتوازن الخارجي، ويمكننا ملاحظة أن العلاقة بين أضلاع الرباعية علاقات شرطية، حيث يستحيل الحديث عن الشراكة الوطنية دون الإقرار بضرورة التوازن الوطني الداخلي وبدونهما الاثنين يكون الحديث عن الوحدة الوطنية ضعيفا وبدون الأضلاع الثلاثة يغيب الحديث عن الضلع الرابع المسؤول عن حماية الأضلاع الثلاثة من مخاطر الأطماع الخارجية.

أن الشعوب - وشعب الجنوب واحد منها - حتى تستطيع أداء دورها كحلقة محورية في التوازن الخارجي بين الشعوب داخل كل أمة، تقوم هي الأخرى على توازن وطني داخلي أفقي ورأسي، وجودي ووظيفي. فلكل شعب بنيانه الوجودي الأفقي الداخلي حلقاته مكونات التقسيم الجغرافي الإداري "المحافظات ومديرياتها"، والتوازن الوطني بين المحافظات في المستوى الوطني وبين المديريات داخل كل محافظة يحقق الشراكة الوطنية ويحفظ للشعب وجوده ووحدته وهويته الوطنية المستقلة، وللشعوب أيضا بناؤها الوظيفي، وهو البناء المسؤول عن تلبية تعدد الاحتياجات المتنامية لمتطلبات البقاء، والتوازن هنا هو بين الحاجات والقدرة على تلبيتها وبين القطاعات الوظيفية المختلفة في المجتمع.

البناء الأول وجودي نوعي يعبر عن الحق وأصحاب الحق والتساوي بينهم في الشراكة والهوية والسيادة والمصير فيما البناء الثاني وظيفي كمي يعبر عن القوة ومن لهم الحق في صناعة وبناء القوة اللازمة لتلبية احتياجات المعيشة والأمن.
العلاقة بين البنيتين الأولى والثانية علاقات الحق بالقوة وهي علاقات التابع بالمتبوع، فالقوة تابعة والحق متبوع، فالحق هنا ينبغي أن يبنى على أساس قوة الحق وليس حق القوة.

أن الإقرار للإنسان بحقه في الوجود ينبغي أن يلازمه الإقرار له بحق البقاء. ويمثل هذا الإقرار حلقة الربط بين الحق والقوة والتوازن بينهما، ويتم ضبط هذا التوازن بمعيارية الحاجة وسقف العدالة يتساوى الناس في الحاجات "حاجات الوجود والبقاء". هذا التساوي ينبغي أن يتجسد في تساوي بين المكونات الوجودية للشعب المتمثلة في مكوناته الجغرافية والإدارية، كما أنه يعطيها الحق في انخراط ابنائها في كل حلقات البناء الوظيفي المدني والعسكري والسياسي، بمعنى آخر أن الكل هنا معني في بناء القوة اللازمة لحفظ وجودهم وتلبية متطلبات بقائهم، بهذه الحقوق وإحقاقها على أرض الواقع تؤمن الشعوب الوفرة المعيشية والأمن، وهي ثنائية يتناغم فيها الحق والواجب، فالحق والواجب شيئان متلازمان، إذا ضاع أحدهما ضاع الآخر.

هذا العرض للفكرة يعطينا أساسا للحديث عن أن للموضوع ثلاثة أبعاد فلسفية، تشريعية وسياسية، وكل منهم هو الآخر ينقسم إلى ثلاثة:

أولا: البعد الفلسفي، وهو حلقة يتم فيها تناول الفكرة العامة للتوازن والشراكة وتتوزع في ثلاث حلقات فرعية الفكرة والتنظيم البنيوي الحامل لهذه الفكرة وحلقة الفعل، فالفكرة تضل بضاعة محمولة خاملة في مخازنها إن لم يأت حامل لنقلها إلى المستهلك، وهذا الحامل هو التنظيم البنيوي بشقيه الوجودي والوظيفي، تشغل البنية الموقع الوسط بين الفكرة والفعل، الأمر الذي يسمح لها استيعاب الفكرة وتجعلها أساسا تقوم عليه هياكل البنية، ومن ناحية أخرى فأن تقيدها بالفكرة يمكنها من القيام بفعل وظيفي ناجح، البعد الفلسفي خصص له التقديم الذي أسلفناه في هذه الورقة ولا حاجة هنا لتكرار عرضه.
 
ثانيا: البعد التشريعي، فروعه الشرعية والتشريع والمشروعية. حيث أن الشعب بتكويناته البنيوية الوجودية والوظيفية يمثل حلقة الشرعية، ولتصبح الشرعية - شرعية الحق - حق ملزم ، تتولى حلقة التشريع الدستوري والقانوني شرعنة أو قوننة الحقوق وجعلها موضع التنفيذ الملزم، كما أن عليها شرعنة الهياكل البنيوية التنفيذية، وإكسابها وكل أفعالها صفة المشروعية.

تتوسط حلقة التشريع بين حلقتي شرعية الحق والتنفيذ القانوني الملزم للحق مما يجعلها تجسد الحق في التشريعات الدستورية والقانونية وتضفي صفة المشروعية على بناء و أفعال المؤسسات التنفيذية.

ثالثا: البعد السياسي، يأتي امتدادا لما قبله ويقع في قمة الهرم، يرتبط بالسياسة والسلطة السياسية ويتفرع إلى ثلاثة فروع: السلطة القضائية، والسلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية. فموقع السياسة والسلطة السياسية في الشعوب ومجتمعاتها مثله مثل موقع العقل في الجسم البشري الذي يرتبط عبر شبكات الاتصال العصبي وشبكة التوصيلات الدموية بكل نقطة أو جزيء في جسم الإنسان، يستلم منه المعلومات ويرسل إليه التوجيهات بالسلوك والحركة والعمل بحسب الوعي والإرادة التي تتشكل لدى عقل الإنسان، وفي السياسة تتكرر نفس العمليات، حيث أن الوعي والإرادة هما المقدمتان التي تتشكل منهما السياسة، وللسياسة عينان، عين تقرأ بها الواقع وبالأخرى تعمل على إدارته وتغييره، وتتمثل في حلقة السياسة كل الهياكل البنيوية للشعب والمجتمع، تتمثل فيها كل المكونات الجغرافية والإدارية على امتداد الجغرافية السيادية للشعب وكل القطاعات الوظيفية، والتمثيل بمثابة حلقة الربط بين السياسة والشعب والمجتمع من خلاله تتشكل معارف لدى السياسة والسلطة السياسية عن حالة الشعب والمجتمع بكل مكوناته وبها ومن خلالها تتحقق الإدارة السياسة لهذه المكونات، وبالتمثيل يتحقق الربط بين المعرفة والسلطة في أفضل وأزهى صورة، فتكتسب السلطة السياسية مصنف سلطة العقل تجمع في جوفها الأبعاد كلها: أبعاد التوازن بشقيه الداخلي والخارجي وأبعاد الشراكة الوطنية والوحدة وتعزيز الهوية الوطنية المستقلة وحماية السيادة والقرار السيادي المستقل.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى