لماذا فضلت سيدة الغناء العربي أحمد شوقي من بين كل شعرائها

> محمد الحمامصي/ كاتب مصري:

> ​لا تزال سيدة الغناء العربي أم كلثوم على مكانتها في الوجدان العربي، تطرب لصوتها مختلف الأجيال، كما أن فرادة عبقريتها في اختيار كلمات أغنياتها وألحانها وطبقات صوتها تعد مصدرا للبحث والدراسة.

كتاب “أم كلثوم الشعر والغناء” للناقد أحمد يوسف علي، الصادر أخيرا عن مركز أبوظبي للغة العربية التابع لدائرة الثقافة والسياحة، يقدم رؤية متكاملة لعبقرية شاعرية أم كلثوم في إنتاج نصها المغنى والمموسق حتى لو انتسب لغويا إلى شعراء أفذاذ في لغة الضاد، مع التركيز على قصائد أحمد شوقي وإبراهيم ناجي.

الكتاب قدم له الكاتب رأفت السويركي مؤكدا أن هذه التجربة في التأليف تضع أيدينا على تطبيق فن اكتشاف الشاعرية الكامنة في ذات أم كلثوم في هذا المجال، بل وتصل إلى التصور بأن أم كلثوم لها نصوصها الخاصة في فنون الشعر غير المسفر عنها، بدليل ما تمتلكه من قدرات فذة في الذائقة والأداء والاستيلاد، وتجلت في اختيارها للنصوص المغناة، وجهدها الخاص بالتوليف والإحلال والدمج في متونها، ليصبح المتلقي المستمع أمام تجربة تقديم النصوص الأساس المنتسبة لشعرائها، والنصوص المغناة بصوت وذائقة وحرفية أم كلثوم.

  • الفنانة والقصائد

يقول المؤلف الناقد أحمد يوسف علي “عُرف عن كبار المغنين في حياتنا المعاصرة أنهم يؤدون ما يوضع لهم، من ألحان لكلمات يكتبها الشعراء الذين يكتبون بالفصحى أو بالعامية، وأن تدخل هؤلاء المغنين في ما يغنون تدخل محدود في قبول النص الشعري أو رفضه، أو تعديل طفيف لكلمة هنا، أو كلمة هناك من كلمات النص. ولكن لم يكن مألوفا ولا معروفا أن يعلن المغني موقفه الصريح، فيختار من النصوص ما يختار، ويقبل منها ما يقبل، وفق رؤية فكرية واجتماعية تحدد علاقته بمجتمعه وبقضاياه، وعلاقته بمجتمعه العربي ومجتمعه الإنساني”.

ويضيف “مارست أم كلثوم هذا الدور بوعي ورؤية واقتدار في كل ما قدمته من القصائد. فغنت أولا من عيون الشعر العربي منذ القرن الثالث الهجري، حتى القرن العشرين، وغنت لشعراء مصريين، وعرب وشعراء من خارج الثقافة العربية. وثانيا غنت لشعراء اختارت أن تغني لهم بعد رحيلهم، واستدعت شعرهم، وكأنه بعث جديد”.

يتابع يوسف “ولما لم تكن قصائد هؤلاء الشعراء مكتوبة لقالب القصيدة المغناة، فقد بزغت رؤيتها الفنية في اختيار النص وتكوينه، وبناء وحداته من بين العشرات من الأبيات التي كتبها الشاعر في قصيدة مثل ‘نهج البردة’ أو ‘النيل’ أو ‘ولد الهدى’ أو ‘الأطلال’ أو غير ذلك. ومن ثم، فإن أم كلثوم غنت القصيدة، وهي شكل من أشكال الغناء، كتبها هذا الشاعر أو ذاك للغناء، وغنت القصيدة التي لم يكتبها صاحبها للغناء، وكونت أم كلثوم نصها، ووفرت القصيدة التي لم يكتبها صاحبها للغناء، ووفرت له وحدته، من حيث التماسك النصي، ومن حيث الموضوع والرؤية”.

العديد من التساؤلات يطرحها أحمد يوسف في هذه المسألة على ثلاثة مستويات: الأول لماذا غنت أم كلثوم القصيدة؟ وما عدد هذه القصائد؟ وما أشكالها؟ وما موضوعاتها؟ الثاني هو لماذا اختارت ما اختارت من نصوص القصائد الكبرى، وكيف كونته؟ وماذا توفر فيه من الشروط النصية؟ ولماذا استدعته، وكيف أدته؟ والمستوى الثالث هو الخطاب الشعري والأيديولوجيا، ويدور حول كمون الأيديولوجيا في النوع الشعري الذي اختارته للغناء، وصلة الخطاب الشعري بالعالم والرسالة التي يبثها.

هكذا يتمحور موضوع الكتاب حول أم كلثوم، ودورها النقدي في غناء القصيدة، وفي اختيارها وتكوينها وبناء وحداتها، وفي رسالتها إلى المتلقين. لذلك تضمن خمسة مباحث هي: الشعر والغناء، غناء القصائد، شوقيات أم كلثوم بين التلقي وتاريخ الأدب، أم كلثوم تؤلف الأطلال، الخطاب الشعري والأيديولوجيا.

  • أكثر من مجرد وسيط

في المبحث الأول ناقش يوسف مسألتين: الأولى تتصل بعلاقة الشعر بالغناء على امتداد تاريخ كل منهما، ودور أم كلثوم في رفع قدر الغناء والمغنين. والثانية تتصل بأم كلثوم وقدرتها على الاختيار والانتقاء وتكوين النص كما تراه. وهل نهضت بهذا الدور وحدها، أم أن شاعرا قريبا منها مثل أحمد رامي قام بهذا الدور، ثم نسبه إلى أم كلثوم؟

القصائد التي أدتها أم كلثوم كانت نوعين: الأول الذي كتبه هذا الشاعر أو ذاك للغناء، وقبلته أم كلثوم، وأدته. والثاني القصائد التي لم تكتب للغناء ورحل شعراؤها، وعادت أم كلثوم إلى ديوان الشاعر، فاختارت ما أرادت، وهيأته حسب رؤيتها للغناء، كما حدث مع أحمد شوقي الذي استعادته أم كلثوم، وقدمته للجمهور من المتلقين، بنصوص من شعره اختارتها، وعدلت فيها، وكما فعلت مع حافظ إبراهيم في “مصر تتحدث عن نفسها”، ومع إبراهيم ناجي في “الأطلال”، ومع غيرهم فهل نهضت أم كلثوم بدورها في الاختيار والانتقاء والتعديل والتركيب والحذف والإضافة؟ وهل امتكلت المؤهلات الفكرية والنقدية مما أرادت؟

المبحث الثاني تناول القصائد التي غنتها أم كلثوم وشكل هذه القصائد وعلاقتها بأشكال الغناء المعروفة، والأسباب التي دفعتها إلى غناء هذا الكم الكبير من الشعر العربي والشعراء الذين تغنت بقصائدهم، سواء أكانت قصائد كتبها شعراؤها للغناء أم اختارتها أم كلثوم انطلاقا من رؤيتها الفكرية والغنية.

وناقش المبحث الثالث مفهوم “الشوقيات” ومدى صلته بصاحبه أحمد شوقي، وكيف تبلور هذا المفهوم بعد رحيله. ويقف المبحث الرابع عند إشكالية موقف أم كلثوم من أن تغني لشاعر معاصر، مثل إبراهيم ناجي قدم لها قصيدة “الأطلال” في منتصف أربعينات القرن العشرين، ولم تلتفت إليها إلا عام 1965 بعد أن مات الشاعر بعدة سنوات، وقد انتقت منها وعدلت وقدمت وأخرت، واستعانت بقصيدة “الوداع” في تشكيل النص الذي قدمته للجمهور عام 1966.

وعالج المبحث الخامس، الصلة بين اختيارات أم كلثوم من نصوص وشعراء وبين الأيديولوجيا السائدة، سواء أكانت في الشكل الشعري أم في الفكر والأنساق الاجتماعية.

عنوان “أم كلثوم تؤلف الأطلال” كان لافتا للانتباه ومثيرا للتساؤل. إذ كيف تؤلف أم كلثوم نصا شعريا معروفا عند الناس، وله نسب أصيل إلى صاحبه وهو إبراهيم ناجي؟

يبين أحمد يوسف كيف أن أم كلثوم أنشأت نصا جديدا يخصها هي من حيث الإنشاء والتكوين، ومن حيث تلقيها للنص الأول الذي كتبه إبراهيم ناجي، فعدلت وقدمت وأخرت، واستعارت مقاطع من غير نص الأطلال ـ الوداع ـ حتى استوى على يديها نصا له نسب أصيل إليها، ونسب من حيث الميلاد إلى الشاعر إبراهيم ناجي، وهذا هو التأليف الذي يقصده وقصدته أم كلثوم.

ويشدد على أن الفنانة إذ تؤدي، ليست متلقية سلبية، ولا وسيطا حاملا نصا ولحنا يؤديه إلى الناس، بل هي من طراز الكبار الذين لهم رؤية ورسالة، رؤية تحدد موقفهم من تغيرات المجتمع المصري وتفاعلاته مع المجتمعات الأخرى من جهة، ومع تراثه وتاريخه البعيد من جهة ثانية، ورسالتهم معيار أصيل لوظيفة الفن ولغته ووسائطه، وفي ضوء هذه الرؤية والرسالة تتحدد طبيعة النص، ومدى قدرته على تجسيد هذه الرسالة، وإقناع الناس بها. لذلك كانت النصوص التي تؤديها أم كلثوم خاضعة لهذا الإطار العام. وكانت إما نصا ليس مكتوبا للغناء تختاره، وتعدله وتؤلفه، كما فعلت في القصائد التي قدمتها على مدار تاريخها الغنائي، وإما نصا مكتوبا للغناء، ويتكيف ويتعدل بالاتفاق بينها وبين الشاعر أو الزجال.

يحدث هذا على مستوى النص، وعلى مستوى اللحن الذي يجسد معاني النص وصوره، ويضيف إليه ما لم يكن فيه. فأم كلثوم صاحبة موقف يفرض عليها رؤية تحدد ما تختار، وما لا تختار، ويحدد لها متى تقدم هذا النص، وكيف تقدمه. نحن إذن أمام متلق عليم ينتقل بالنص من حال السكون إلى حال الحيوية والنشاط والتأثير.

  • شوقي الشاعر الأثير

يلفت الناقد إلى أن أم كلثوم قد غنت لأحمد شوقي تسع قصائد، وغنت قصائد لشعراء آخرين قدماء ومحدثين ومعاصرين بلغ عددهم سبعة عشر شاعرا لا ينافس شوقي أحد منهم. أما أحمد رامي فقد غنت له ثمانية وعشرين نصا من شعر الفصحى. وطيلة مسيرتها الغنائية غنت لخمسين شاعرا، منهم سبعة وثلاثون شاعرا مصريا استأثروا بالنصيب الأكبر من النصوص الشعرية التي تغنت بها.

وغنت لخمسة من الشعراء العرب المعاصرين في الكويت والسعودية ولبنان وسوريا والسودان، وغنّت لسبعة من الشعراء العرب القدماء منهم شاعر مصري هو ابن النبيه شاعر العصر الأيوبي. وغنت لشعراء قدماء من العصر العباسي الأول: بكر بن النطاح، والعباس بن الأحنف، ومن العصر العباسي الثاني: أبوفراس الحمداني والشريف الرضي، ومن عصر الدول والإمارات، أبوالحسن سعدالله الدجاجي وابن النبيه وصفي الدين الحلي.

غنت الفنانة كذلك للأول بكر بن النطاح “أكذب نفسي عنك في كل ما أرى”، وغنت للثاني العباس بن الأحنف “يا بعيد موصولا بقلبي”، وغنت لأبي فراس “أراك عصي الدمع”، وللشريف الرضي “أيها الرائح المجد تحمل” و”قولي لطيفك ينثني عن مضجعي”، أما الدجاجي فقد غنت له “لي لذة في ذلتي وخضوعي”، ولابن النبيه غنت “أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعا”، و”أمانا أيها القمر المطل”، ولصفي الدين الحلي “مثل الغزال نظرة ولفتة”. وأخيرا غنّت لشاعر القرن الثامن عشر عبدالله الشبراوي “وحقك أنت المنى والطلب”.

أما الشعراء العرب المعاصرون الذين غنت لهم فهم أحمد العدواني وعبدالله الفيصل من الكويت والسعودية، وجورج جرداق من لبنان ونزار قباني من سوريا، والهادي آدم من السودان. وكل هؤلاء شعراء الفصحى، ولم يبق ممن غنت لهم أم كلثوم إلا شاعران من خارج الثقافة العربية هما: عمر الخيام ومحمد إقبال، الأول كتب رباعياته المعروفة باسمه باللغة الفارسية القديمة، وترجمها شعرا أحمد رامي، والثاني من باكستان كتب قصيدته “حديث الروح” باللغة الأوردية، وترجمها إلى العربية محمد حسن الأعظمي، وصاغها شعرا الصاوي علي شعلان.

ويرى أحمد يوسف أن أم كلثوم حين غنت للشعراء، كانت لديها أشكال غنائية معروفة وهي الدور والطقطوقة والموال والموشح والمونولوج والقصيدة الشعرية، ومع أنها غنت الدور والطقطوقة والموال والموشح والمونولوج، انحازت منذ بدايتها إلى القصيدة، وانحيازها لا يعني انتقاصا من قدر الأشكال الأخرى، لأنها كانت حريصة على رقي الكلمة في كل شكل تغنيه أو تؤديه، فرامي مثلا كتب لها الطقطوقة، كما كتب لها القصيدة القصيرة، “الصب تفضحه عيونه”، والقصيدة الطويلة “اذكريني”، و”ذكريات”، وكان في كل مرتقيا بالكلمة والخيال.

ويقول الناقد إن أحمد شوقي استمع لأم كلثوم حين دعاها إلى كرمة ابن هانئ وهي تغني “اللي حبك ياهناه”، فكتب تقديرا لها قصيدة “سلوا كؤوس الطلا هل لامست فاها. واستخبروا الراح هل مست ثناياها” التي لم تغنها إلا عام 1946 بعد وفاة شوقي.

لم تكن إذن صلة أم كلثوم بالشعر العربي صلة عابرة ولا هامشية، فقد أكدتها بعد كل ما قدمناه في حوار مع رجاء النقاش بقولها “قرأت الشعر العربي في كل عصوره. إنه الفن المفضل لدي منذ البداية، وأثناء قراءتي كنت أختار بعض القصائد لأغنيها، وكنت أنتقي مختارات لنفسي أسجلها لأقرأها بين الحين والآخر. وقد بلغت هذه المختارات حوالي ألف بيت. وقد قرأت مختارات الشعر القديم مثل ديوان “الحماسة” لأبي تمام، كما قرأت كل كتاب الأغاني للأصفهاني”.

ويشير إلى أن أم كلثوم فطنت إلى أهمية أحمد شوقي، وشعره في تحقيق ما تصبو إليه من غايات، وهي ربط الغناء بتراثه الشعري كما كان، وبعث الشعر العربي إلى ساحة الغناء المثمر والممتع والخلاق استجابة لمطالب الأصالة من جهة، والتحديث من جهة أخرى. وقد كان شعر شوقي بالنسبة إليها يمثل حلقات ثلاث من حلقات الشخصية المصرية: الحلقة الفرعونية، الحلقة العربية، الحلقة الإسلامية، بالإضافة إلى كتاباته الشعرية عن حاضر مصر، وتفاعلاتها الإقليمية والدولية، ودوائر السلم والحرب بينها وبين الغرب بكل أطيافه.

وأحمد شوقي بذلك في عرف أم كلثوم شاعرها المفضل لتمثله التاريخ ولصلته القوية بالتحديث. لقد كانت أم كلثوم تفتش فيما تقرأ من شعر شوقي عن مكنوناتها القومية والاجتماعية والدينية، وعن الخطاب الشعري الذي يجسد هذه المكنونات، ويجعلها جلية على مسامع الناس وأبصارهم. كانت تؤمن بوظيفة الغناء الاجتماعية، التي تنطلق من مواكبة الفنان للأحداث الجسام التي تمثل تطور التاريخ الاجتماعي المصري، فكان شوقي صوت مصر الحاضر في كل أنشطتها ومجاليها، وصوت القومية العربية، وصوت الرابطة الإسلامية، وهمزة الوصل الكبرى بين كل هذه المستويات، وشعوب العالم في آسيا وأفريقيا وأوروبا. فهو شاعر الشرق في أفراحه وأتراحه.

هذه الأوجه المتعددة لشعر شوقي، هي نفسها الأوجه التي حققتها أم كلثوم غناء وحضورا وتأثيرا، ووطدت أركان وجودها بين المصريين والعرب والمسلمين في كل أرجاء الدنيا، كما وطدت أركان صلاتها بالعالم المغاير في أوروبا وأميركا. فغاية شوقي هي غاية أم كلثوم من فن الكلمة وفن الأداء الصوتي. وقصيدة شوقي هي القصيدة التي عرفتها أم كلثوم قبل أن تغنّي لشوقي، عرفتها في ما غنّت من موروث الغناء العربي مثل “أراك عصي الدمع”، والقصائد التي غنّتها لشيخها أبوالعلا محمد.

العرب اللندنية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى