وعي الشعب لتاريخه مقدمة شرطية أولى لتحديد مسمى الهوية

> سنناقش في هذه المقالة ما كان ينبغي مناقشته عشية الاستقلال الوطني والإعلان عن قيام الدولة في نوفمبر 1967م، حيث شكلت الايديولوجيات على اختلافها القومية والعلمانية الأممية أو الدينية الغشاء الذي حجب حقائق التاريخ وفسح المجال لتشكيل وعي جمعي تاريخي مزيف لدى عامة الناس، مما ساعد على فتح بوابة كبرى اندفعت منها كل المكونات المجتمعية لتبنى إرادات ضد مصالحها الوطنية. إن مكونات الوعي التاريخي تتألف من ثلاثة عناصر:

1- وعي الذات الوطنية (الركن الوطني في الوعي التاريخي).

2- وعي الشعب لانتمائه العروبي (انتماءه لأمة محددة).

3- وعي الشعب لانتمائه الإنساني.

في حالة الجنوب وبالنظر لغياب الوعي التاريخي، أسقط الركن الوطني من مكونات الوعي التاريخي للشعب، واقتصر على الركن العروبي والركن الأممي(الإنساني)، بفعل طغيان النفوذ الايديولوجي العابر للحدود.

وبغياب الركن الوطني واستبعاده عن الوعي التاريخي، ترك الباب مفتوحا للأطماع الخارجية أن تلعب بموضوع الهوية الوطنية وتخضعه لأهواء وأمزجة القوى الطامعة بالأرض الجنوبية.

إن إسقاط البعد الوطني للهوية كان يعني إسقاط حق الوجود والبقاء لهذا الشعب ( هوية وسيادة وتقرير مصير)، تفسر كل ذلك حقيقة التقلبات الغير مبررة التي حدثت في مسمى هوية الشعب، من ممالك العربية الجنوبية (حضرموت وأوسان وقتبان) إلى مملكة الاتحاد الحميري، إلى مخلاف حضرموت التابع لدولة الخلافة العربية الإسلامية إلى ظهور إمارة عدن بعد التغلب على الغزو البرتغالي والتركي من بعده إلى ظهور السلطنات والإمارات بعد طرد جيوش الأئمة القاسميين الغزاة من أراضي شعب الجنوب إلى الاحتلال البريطاني وظهور اتحاد الجنوب العربي، ثم جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية ثم تغيير اسمها إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والانصهار فيما بعد مع الجمهورية العربية اليمنية وقيام الجمهورية اليمنية، حيث طبق في ذلك قانون من قوانين الكيمياء أنه حين يتم صهر عنصرين ذريين يظهر العنصر الثالث (عنصر جديد)، وراح عن بال من قاموا بذلك أنه يستحيل تطبيق قوانين الكيمياء على الاجتماع والسياسة، كما راح عن بالهم أيضا أن وجود الشعبين والدولتين في هذه البقعة من العالم كان ثمرة لتاريخ طويل يمتد إلى آلاف السنين تشكلت وترسخت فيه الهوية الوطنية المستقلة لكل منهما وتحددت فيه حدود الأرض والسيادة عليها من قبل كل شعب وممارسة سيادته عليها، وأن الورقة التي تم التوقيع عليها وسميت "الإعلان الوحدوي" بلا قيمة وولدت ميتة منذ إعلانها.

لقد كانت ورقة إعلان حرب أكثر مما هي إعلان وحدوي حركتها الأطماع المحكومة بالأمزجة والأهواء، فبإسقاط الركن الوطني أسقط الحق، أسقطت الشعبين، أسقط القانون الإلهي الذي جعل الناس في شعوب وجعل الشعوب في أمم، كان ذلك عملا موجها لإسقاط الحق وإسقاط الهوية والسيادة وإسقاط العلاقات الحقوقية المحكومة بحدود قالها الخالق عز وجل وأثمرها التاريخ وشرعنها القانون الوضعي، فعمت الفوضى والصراع والحرب.

إن حكمة الخالق حين جعل الناس في شعوب تكمن في توفير لهم أسباب الحياة، أسباب الوجود والبقاء واقتسام الأرض بين الشعوب تكمن فيها أسباب الحياة، أسباب المعيشة والأمن، وفي مجرى التاريخ، في معركة الدفاع عن الوجود والبقاء تشكل الايلاف البشري المسمى اليوم شعب الجنوب بحدوده الدولية المعروفة.

إن أهم المحطات التاريخية التي دفعت سكان هذا الحيز الجغرافي إلى التحالف وتشكل ايلافهم الذي اكتسب مع مرور الزمن مسمى الشعب يمكن إيجازها بالآتي:

1- الغزوات والحروب السبأية التدميرية التي قام بها السبأيون ضد ممالك العربية الجنوبية وتدمير حضاراتها (حضرموت وأوسان وقتبان) دفعت بقايا تلك الممالك إلى لملمة أشلائها وشكلت الاتحاد الحميري الذي تولى طرد الغزاة السبأيين من كامل الجغرافيا الجنوبية، بل وواصل حروبه ضد الغزاة وإسقاط مراكزهم داخل أرض الشمال. وكان الاتحاد الحميري أول ولادة لجنوب متحد في شعب واحد.

2- وبعد ظهور الإسلام ودولة الخلافة الإسلامية كان الجنوب مخلاف يتبع دولة الخلافة باسم مخلاف حضرموت حدوده حدود الجنوب كله.

3- ثم اتحد الجنوب كله لمقاومة الغزو البرتغالي ومن بعده لمقاومة الاحتلال التركي بعد أن قام قائد الأسطول التركي بإعدام حاكم عدن السلطان عامر بن داوود الظاهري، مثل ذلك سببا مباشرا لاشتعال وتحرك الجنوب كله لطرد الأتراك من أرضهم، في مقاومة شعبية

عارمة توجت بإقامة جنوب حر مستقل وظهور إمارة عدن بقيادة الأمير عبدالقادر بن محمد اليافعي وامتد حكمها ليشمل كامل الجغرافيا الجنوبية.

4- ثم جاء الغزو القاسمي ضد أراضي تلك الإمارة في عهد الإمام القاسم، وحاولت جيوش الإمام بسط السيطرة عليها وضمها إلى دائرة نفوذ أئمة صنعاء، أمام هذا الخطر الوجودي تداعت كل قبائل الجنوب في كامل الامتداد الجغرافي من باب المندب إلى المهرة وانخرطت في الصراع والحرب مع الغزاة، انتهت بطرد الغزاة وظهور سلطنات وامارات الجنوب العربي وفي تلك الأحداث اختار سلاطين وأمراء الجنوب السلطان سيف بن قحطان بن معوضة اليافعي وفوضوه بأن يمثل الجنوب بكل مكوناته في التفاوض مع ممثل الأمام القاسم واللقاء به في منطقة قعطبة الحدودية والتوقيع على معاهدة عدم الاعتداء من قبل الطرفين، وقبل التوقيع ذيل السلطان سيف بن قحطان تلك المعاهدة بملاحظة "أن هذه المعاهدة لا تدخل حيز التنفيذ إلا بعد تعميدها من قبل المرجعية الدينية في عينات -حضرموت". وكانت تلك أقوى إشارة إلى الوحدة السياسية الجنوبية ووحدة المرجعية الدينية لشعب الجنوب.

5- كل هذه المحطات عمقت وحدة النسيج الاجتماعي لشعب الجنوب ووحدته السياسية. ولم يستطع الاستعمار البريطاني تجاوز هذه الحقيقة -حقيقة الروابط الطبيعية والاجتماعية والسياسية بين المكونات الجنوبية، فعزز موقع عدن اقتصاديا وسياسيا لعموم الجنوب وربط به إداريا وسياسيا ودفاعيا كل السلطنات والإمارات الجنوبية من خلال التوقيع على معاهدات سياسية ودفاعية معها.

إن النهوض الوطني التحرري لشعب الجنوب واتساع المقاومة الشعبية للاحتلال البريطاني عززت الوحدة الوطنية بين أبناء الشعب، وبها اكتمل تشكل شعب الجنوب وأصبحت مع المتغيرات الدولية التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت الأرضية جاهزة لصدور القرارات الدولية بشأن الجنوب في ستينيات القرن العشرين:

1- قرار الأمم المتحدة الاعتراف بشعب الجنوب العربي هوية وطنية مستقلة.

2- قرار الاعتراف بالمنطقة السيادية بحدودها الدولية المعروفة.

3- قرار الاعتراف بحق شعب الجنوب في تقرير مصيره.

كل هذه القرارات مهدت لإعلان الاستقلال الوطني وقيام دولة الجنوب الوطنية المستقلة.

4- تم صدور القرار الرابع الاعتراف بالدولة الجديدة وقبولها دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة وفي الجامعة العربية وبقية مؤسسات الشرعية الدولية والإقليمية.

منذ الإعلان عن قيام الدولة في 30 نوفمبر 1967م بدأت مشكلة تسمية هوية الشعب ومسمى الدولة الوليدة، هنا ظهرت إحدى أكبر المشكلات التي كان لها تداعيات كارثية على شعب الجنوب، وهي غياب وعي الشعب وقيادته للتاريخ الوطني الطبيعي والاجتماعي والسياسي. فالتاريخ ذاكرة الشعوب، والشعب الذي لا يعي تاريخه يكون أشبه بالمريض المصاب بالزهايمر الذي لا يعرف ما له وما عليه.

تسبب كل ذلك الوقوع في الخطأ القاتل عند اختياره مسمى الهوية الوطنية التي عليها يتحدد الحق في الأرض (السيادة) وحدودها الجغرافية وممارسة القرار السيادي عليها.

وحين انجر شعب الجنوب للأخذ بالجهوية الجنوبية (اليمانية) اسما لهويته فتح ثغره لمن يتواجدون في هذه الجهوية الادعاء أنهم شركاءه في أرضه والسيادة عليها وفي القرار السيادي، وادعوا أن الأرض الواقعة في الجهوية الجنوبية (اليمانية) هي حق لكل من يتواجدون في هذه الجهوية، وقد كانوا سباقون للأخذ بالجهوية اليمانية اسما لهوية شعبهم ودولتهم وكانوا يخفون وراء ذلك أطماعهم في السيطرة على كامل جغرافية جنوب الجزيرة العربية.

وكان ذلك السبب المباشر للتوترات والصراعات والحروب التي شهدتها المنطقة على امتداد القرن العشرين والربع الأول من القرن الواحد والعشرين ولا تزال مستمرة إلى اليوم.

إن وعي شعب الجنوب لتاريخه هو وعيه لذاته الوطنية ووعيه لحقوقه الوطنية الثابتة (هوية وسيادة وقرار سيادي) وعلاقاته الداخلية وعلى هذا الوعي تتحدد أيضا علاقاته الخارجية بالآخر.

تتألف بنية الوعي التاريخي من ثلاثة عناصر:

1- العنصر الجغرافي الطبيعي ويشمل المكان ومواصفاته، موقعه مساحته، امتداداته وثرواته.

2- العنصر الاجتماعي (الايلاف البشري) الذي تشكل في مجرى الدفاع عن الحق في الجغرافيا وحدودها.

3- العنصر السياسي ويشمل وعي التطور التاريخي للسياسة وسلطة القرار السياسي-تطور العلاقة بين السياسة والمؤسسات السياسية من جهة مع البعدين الجغرافي والاجتماعي من جهة أخرى.

يجسد كل ذلك حقيقة أن الجغرافيا تنبت الاجتماع البشري وهما معا يصنعان السياسة.

تشكل العناصر الثلاثة محددات الهوية الوطنية، فالامتداد الجغرافي بحدوده ومواصفاته يمثل لحظة تحديد حدود الحق في الأرض (المنطقة السيادية) ويمثل المجتمع الكتلة البشرية التي تشكلت في مجرى الدفاع عن الأرض وخلقت توازن يسمح بحماية أرضها. أما السياسة والإدارة السياسية فتمثل العنصر المعني بإدارة العلاقة بين الحق والقوة (بين الأرض وسكانها) في البناء الداخلي وعلاقاتهما بالآخر في البعد الخارجي.

إن المراجعة السريعة للمسميات التي عرفها التكوين التاريخي لشعب الجنوب نجد أنه يتوزع بين الأبعاد الثلاثة إما أنها مأخوذة من المواصفات المكانية (الجغرافية) للأرض مثلا حضرموت وهي كلمة مركبة تجمع في جوفها أرض التحضر والأرض الميتة أو أرض الحياة والموت، كذلك عدن التي تعني المكان الطيب الإقامة والمحمي طبيعيا، في هذين المسمأين تظهر السعة والشمول في معانيهما، أما المسميات الأخرى فتظهر المعنى الضيق الخاص بها فقط مثلا لحج مفرد لجمع الحاج ويعني الضفاف أي ضفاف الوادي أو ميفعة التل المرتفع الذي يشرف على ما حوله أو شبوة التي تعني الكبرياء أو الشموخ، أو يافع وتعني ما ارتفع عن الأرض.. إلخ.

وكذلك عرف التكوين التاريخي لشعب الجنوب مسميات مأخوذة من التحالفات والائتلافات أو التكتلات التي صنعت الأحداث الحاسمة في التاريخ مثال الحميريون، العوالق وغيرهم، أو أن المسميات ظهرت باسم القادة الذين قادوا الأحداث الحاسمة في التاريخ مثلا السلطنات التي سميت بأسماء قادتها.

نخلص من كل ذلك أن المسميان حضرموت وعدن هما الاسمان اللذان صمدا ولم يخضعا للتغيير والتبدلات طوال مراحل التطور التاريخي لشعب الجنوب بالإضافة إلى أنهما يحملان في معانيهما السعة والشمول، كما أنه من الناحية الجيو سياسية والإستراتيجية تستمد منهما الجغرافية السيادية لشعب الجنوب أهميتها الاستثنائية عبر العصور كلها، الأمر الذي يعني أن كل المعطيات ترجح اختيار حضرموت اسما لهوية شعب الجنوب وتلقائيا ستكون اسما للدولة واختيار عدن عاصمة لهذه الدولة، وسيضاف إلى اسم الدولة بعد الانتماء للأمة العربية (دولة حضرموت العربية).

*أستاذ الفلسفة السياسية المساعد كلية الآداب- جامعة عدن

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى