السُّفة في اليمن... ونساء يحاولن التمسك بها أمام مهبّ الريح

> عبدالله عمر البيتي

> صالح باحشوان مالك محل لبيع منتجات سعف النّخيل: "أصبحَ سوق هذه المنتجات ضعيفًا جدًا، بالكاد نبيعُ قطعةً أو قطعتين في اليوم الواحد

> في وادي حجر في محافظة حضرموت "جنوب اليمن"، تنهض عائشة صالح (51 عامًا)، باكرًا من نومها، وتتجه سيرًا على الأقدام نحو غابات النخيل المنتشرة هناك، والتي تبلغ -وفقًا لإحصائيات رسمية- نحو أربعة ملايين نخلة؛ لتجمع كميّات من الخُوص (سعف النخيل الذي يقع في قلب النخلة)، وتعود محمّلةً به إلى منزلها المبني على الطّراز الطيني، والذي هو الآخر أقيمت دعاماته وأسقفه من جذوع النخيل وسعفها، في دلالةٍ واضحةٍ على مدى العلاقة الوثيقة بين الإنسان اليمني وشجرة النخيل.

وقد ساهمت معطيات الحياة وظروفها في هذا الوادي في جعل شجرة النخيل تُمثِّل شريان حياة سكانه ومحورها، فكانوا وما زالوا يستفيدون منها على الدّوام. إذ يقوم المزارعون بتلقيح أشجار النخيل خلال شهري فبراير، ومارس من كل عام، وفي الوقت ذاته يقطعون سعفها؛ لتجمعه النّساء، ويقطعنه طوليًا إلى ثلاث قطع أو أكثر، ويُعرّضنه لأشعة الشّمس المُباشرة قبل جمعه في مكانٍ واحدٍ. ويبلغ إنتاج سعف النخيل من النخلة الواحدة نحو عشر سعفات في السنة.


وتعمل عائشة وبناتها الثلاث في واحدة من أقدم الحرف البشرية، التي لا تزال قائمةً حتّى يومنا هذا، مع صعوبة بالغة في تحديد عمر هذه الحرفة؛ بسبب سرعة تحلل موادها الخام العضوية، وهي المنتجات الخوصية، منتجات سعف النخيل، والتي تُشكِّل مصدرًا للرزق، وفي الوقت نفسه تُعدّ جزءًا مهمًا من الموروث الثقافي.

وقد امتهنت النساء سَفّ الخُوص منذ القدم، وصنعن منه الأدوات الضرورية التي لم يكن يُعرف سواها في الماضي، ولم يكن يخلو منها أي بيت. وشكّلت النساء في هذا الوادي الغالبية العظمى من مزاولي هذه الحرفة اليدوية الشّعبية التّي تُعرف محليًا بـ "السُّفة"، والمتوارثة عن أجدادهن كابرًا عن كابر، وقد أظهرن مستوياتٍ عاليةً من الخبرة والمهارة والسّلاسة في ممارستها، ولعل أكثر صفتين ملازمتين لهذه الحرفة هما الدقة والمهارة الفائقتان في آنٍ واحد معًا.

تقضي عائشة معظم ساعات النهار، وهي في شدة تركيزها تعمل بصبرٍ دون كللٍ؛ لتنتج أصنافًا مختلفة الاستعمالات والأغراض والأشكال، يحمل كلُّ صنفٍ منها سرًّا خاصًا لا يُشبه غيره، وتوزيعًا للألوان بنُظم هندسية جمالية غاية في البهاء والإتقان، تعكس إبداعًا في ابتكار وحدات وتكوينات زخرفيّة محبّبة إلى النفس، بأدوات عملٍ بسيطة وميسورة، وهي: اليدان في الدرجة الأولى، والمخايط أو المخارز التي تقوم مقام الإبرة في الدرجة الثانية، إلى جانب بعض الأدوات الأخرى كالمقص، والمشرط.

تبتسم عائشة بهدوء وهي تشرح بداياتها الأولى في هذه المهنة قائلة: "بدأت صداقتي مع هذه المهنة تقريبًا في الثانية عشرة من عمري، علّمتني إيّاها أمي -رحمها الله- حتى أتقنتها، وحفظت أسرارها منذ نعومة أظفاري كما الكثير من بنات جيلي آنذاك، وكذلك فعلتُ أنا اليوم مع بناتي بتعليمهن تفاصيل هذه المهنة وأسرارها منذ طفولتهن، فهذه المهنة هي كنزٌ حقيقي لمن يُقدّرها، ويُحبّها". وتُواصِل حديثها: "هذه المنتجات هي تراثنا الذي يجب أن نحافظ عليه في هذا الوادي الخيّر، فهي جزء لا يتجزأ منا، ومن هوية هذه الأرض الطّيبة وثقافتها".

وتنوّه عائشة بأن هذه المهنة كغيرها تحتاج إلى مهارات ومعارف معينّة -كما تقول- وهي: اختيار النوع الجيّد من الخُوص، ونقعه لفترة من الزمن في الماء حتّى يرطب ويلين ليسهل تشكيله لاحقًا، ومن ثم تلوين بعضه وصبغه بالألوان المطلوبة بطرق طبيعيّة خاصّة، والبدء بالسَّف بمقاسات معينّة حسب المنتج المطلوب، وفي الأخير تتم خياطة هذه السُّفة وتشكيلها وضمها إلى بعضها على هيئة نسيج، ولمنع تمزُّق أطرافها ولحفظ عمرها الافتراضي تُقلّم أطرافها وتُهذّب لتعطي المنتج النهائي المطلوب.

وتكاد تتشابه طرق تصنيع جميع منتجات سعف النّخيل عند أغلب النّساء المزاولات لهذه المهنة على امتداد وادي حجر، سواء من حيث مراحل الإعداد القبلية للخُوص وتجهيزه، واختيار الجيّد منه، وصباغته وتلوينه، أو من حيث طريقة العمل والإنتاج والتصنيع نفسها باستثناء بعض الفروق الطفيفة التي تختلف من منتج إلى آخر حسب الغرض من استخدامه واستعماله.

وبكلتا يديها تُشير عائشة إلى عدد من الأصناف المختلفة الأحجام والألوان والأشكال والموضوعة إلى جوارها لتوضح لنا تعدّد هذه المنتجات، المستخدمة قديمًا ومنها: المكانس (تُستخدم في تنظيف المنازل)، السِّلق (تُستخدم كفرش على الأرض للنّوم عليها)، الكَنبة (تُستخدم لحفظ الطّعام من الحشرات)، الطَّبق (يُستخدم كسفرة لتقديم الطعام عليه)، المراوح اليدويّة (تُستخدم يدويًا للتهوية من شدة الحرارة)، المرابش (تُستخدم لنقل التُّربة من مكان إلى آخر)، القُبعات (تستخدم للوقاية من أشعة الشَّمس)، المشجب (حامل هرمي توضع فوقه الملابس لتتشبع بعبق روائح البخور المنبثقة من أسفله)، وغيرها من المنتجات الأخرى، زيادةً على استخدامه في أغراض الزينة، وإضفاء اللمسة الجمالية في الاحتفالات والمناسبات.

ويوضح المدير التنفيذي لمؤسسة الرناد للتنمية الثقافية في حضرموت، أحمد الربّاكي، أن الحرفيات من النّساء اعتمدن على سعف النّخيل في صناعة ما يزيد على 35 صنفًا من المنتجات الخوصيّة المختلفة، والتي تمتاز بِخفّة وزنها، وسهولة نقلها، إلى جانب أنها منتجات مستدامة وجميلة وطبيعية تتوافر بمجموعة من الألوان والأنماط المتعدّدة. ويصفها بأنّها "خيار نوعي رائع لمن يبحث عن منتجات جميلة ومستدامة، صديقة للبيئة".


وعمّا تغيّر بين الماضي والحاضر، تُخبِرنا عائشة بأنّ "هناك انحسارًا كبيرًا وملحوظًا في وقتنا الحالي لكثيرٍ من هذه المنتجات، وربما انعدم بعضها من السوق المحلي بسبب منافسة المنتجات البلاستيكية وغيرها لها، والتي اكتسحت الأسواق بشكلٍ مهول، وبأسعارٍ منخفضة قياسًا إلى أسعار منتجات الخوص". وترى بأنها منافسة غير عادلة في القيمة السوقية لهذا المنتج، على الرغم من أن منتجات سعف النخيل لها ميزات عدّة تجعلها الأفضل، منها الحفاظ على الأطعمة والحبوب، ومنع إصابتها بالتعفن؛ نظرًا إلى مقاومتها للرطوبة.

وفي هذا الصدد يرى رئيس جمعية تطوير الحرف التراثية في محافظة حضرموت، عوض عفيف، في حديثٍ خاص إلى رصيف22، أنّه "على الرغم من الجدوى الاقتصادية الكبيرة التي يمكن أن تحققها المنتجات الخوصيّة إلا أن تلك الصناعات للأسف ظلّت على حالها البدائي دون ابتكارات جديدة في الشّكل أو الاستخدام، ولم تحظَ بالدّعم أو التّشجيع سواء الحكومي أو الخاص لمن يمتهنونها بطريقة تجعلهم قادرين على تطويرها لتتلاءم مع احتياجات السّوق كموروث ثقافي موغل في القدم".


وعن الأصناف الأكثر طلبًا في السّوق في الوقت الحالي، تعرض عائشة أصنافًا أُنتجتها حديثًا، قائلةً: "إن المكانس، والأطباق، بالإضافة إلى المراوح اليدوية على اختلاف أشكالها وألوانها، هي المنتجات الأكثر طلبًا ورواجًا".

وبحسب عائشة، فإن عملية إنتاج القطعة الواحدة من سعف النخيل تستغرق من يوم ونصف إلى يومين كحدٍ أقصى، حيث أنه لا بد من تعريضها لأشعة الشّمس في بعض مراحل إنتاجها الأولى بين الفينة والأخرى؛ حتّى تجفّ وتُنجَز دون أيّ خلل يمكن أن يصيبها، أو يؤثّر في جودتها لاحقًا.

وتذكر عائشة "أنه على الرغم من كل هذه المتاعب والإعدادات المسبقة الشّاقة لهذه المنتجات، فإنها دومًا ما تجد صعوبةً بالغةً في تسويقها، وبيعها، أو أنها تضطر إلى بيعها بثمنٍ بخس، بل أحيانًا لا تعمل إلا وفقًا لما تتلقاه من طلبات من بعض الزّبائن". ويصل متوسط سعر القطعة الواحدة من منتجاتها إلى نحو 2،000 ريال يمني، وهو مبلغ من دون شك لا يتناسب مع ما يُبذل من جهد كبير في العمل. وقد أجبرَ هذا الواقع البائس الكثير من الحِرفيات على ترك العمل في هذه الحرفة حال توفرت أعمال أخرى، بأجرٍ مُجزٍ.

إلا أنّ عائشة تعدّ عملها وبناتها الثّلاث في هذه الحرفة، "الأمل الوحيد والممكن الذي من خلاله يحصلن على المال لتوفير متطلبات حياتهن الضرورية، ولو كان يسيرًا، أضف إلى ذلك ما تشهده البلاد من نزاعات عمّقت معاناتهنّ وضاعفتها، وساومتهن حتّى في توفير لُقمة عيشهن الكريم".

يقول صالح باحشوان (31 عامًا)، وهو مالك لمحل "خُوصة"، المختص ببيع منتجات سعف النّخيل في سوق مدينة المكلا (عاصمة محافظة حضرموت، تبعد عن وادي حجر نحو 135 كيلومترًا)، ويعرض فيه العديد من الأصناف التي يشتريها من الحرفيات في وادي حجر: "أصبحَ سوق هذه المنتجات ضعيفًا جدًا، بالكاد نبيعُ قطعةً أو قطعتين في اليوم الواحد، وربما تمرّ علينا أيام لا نبيع فيها شيئًا. لم يعد النّاس يهتمون لهذه المنتجات. تتحسّن المبيعات نوعًا ما خلال شهر رمضان وذلك لما تحمله هذه المنتجات من معانٍ ومدلولات تراثية ودينية".

ترجع عائشة بذاكرتها إلى الوراء، إلى سنوات الطفولة التي مضت، وتتذكر بحسرة شديدة وعينين مليئتين بالدموع، يوم كانت تعمل مع والدتها في هذه المهنة، وكيف كانت توفر لهم دخلًا يكفيهم لتغطية كل احتياجاتهم، بالإضافة إلى طلب كبير لا ينتهي لمنتجاتهم في السّوق المحلّي، حتّى أنهم أصبحوا لا يستطيعون توفير كل طلبات السّوق والزّبائن، فيكون الطّلب أكثر من العرض. وتصف تلك السنوات بأنها "سنوات الوفرة والخير، وتقدير أهل ذلك الزّمن لهذه المنتجات ومعرفة قيمتها، وفوائدها المختلفة... وليتها تعود!".


دون شك تراجعت هذه الحرفة اليوم بشكلٍ كبيرٍ، واقتصر العمل فيها على قلة قليلة من الحِرفيات. لكن من يتأمل المنتجات الخوصيّة لعائشة وسواها من نساء وادي حجر، لا يمكنه إلا أن يكون فخورًا، ويفيض قلبه سعادةً؛ نظرًا إلى ما تحمله هذه المنتجات من إرثٍ تاريخيٍ يُجسّد معاني الثّقافة والأصالة، وهو كما تصفه عائشة "الكنز الحقيقي" الذي يجب الحفاظ عليه، وأن يُعلَّم بكل حُبّ واهتمام للأجيال القادمة، وهذا ما يقع على عاتق الجهات الحكومية، وتساندها في ذلك منظمات المجتمع المدني العاملة والمعنيّة بحفظ هذا الإرث اليمني التليد وصونه.

"رصيف22 "

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى