علاقات الأسبقية المنطقية والزمانية بين الهوية والسيادة وتقرير المصير

> يدور جدل واسع في الأوساط الثقافية وفي شبكات التواصل الاجتماعي حول مبدأ حق تقرير المصير وسلامة استخدامه بوصفة واحدًا من المخارج التي ينبغي أن يتبعها شعب الجنوب للخروج من ورطة الإعلان الوحدوي الذي أوقعته فيها السياسة والنظام السياسي الذي كان قائمًا في مايو 1990، حيث يرى البعض أن الحل يكمن في استخدام حق تقرير المصير، ويرى البعض الآخر أن الهدف الأمثل الذي ينبغي أن يرفعه الجنوبيون هو هدف " استعادة الدولة"، فيما يرى آخرون أن الهدف هو التحرير والاستقلال وبسط السيطرة على المنطقة السيادية لشعب الجنوب، ويرى فريق آخر أن هدف فك الارتباط مع الجمهورية العربية اليمنية هو الحل. جميع هذه المفاهيم لا ينبغي أن تكون موضوع خلاف بين الجنوبيين، فهي تفريعات أو مسميات تصب في مسار واحد هو مسار استعادة دولة الجنوب بحدودها الدولية المعترف بها قبل 22 مايو 1990، والدولة هي شعب بهوية وطنية مستقلة يتواجد على أرض تمثل منطقة سيادية مستقلة محددة بحدود دولية معترف بها دوليًا، له الحق الكامل في تقرير مصيره.

مبادئ الهوية الوطنية المستقلة ومبدأ السيادة على منطقة جغرافية محددة ومبدأ حق تقرير المصير هي تعبير عن ثلاثة حقوق وتقوم عليها أي دولة: الحق الوجودي، والحق الوظيفي في ممارسة السيادة على الأرض، وحق الإدارة (الحكم) إدارة العلاقة بين الشعبين الوجودي والوظيفي (الداخلي)، وإدارة العلاقة مع الشعوب والدول الأخرى .

المبادئ الثلاثة بوصفها حقوقًا يتمتع بها أي شعب في العالم محكومة بأسبقية منطقية وزمانية. حيث يستحيل الحديث عن السيادة بدون وجود الشعب بهوية وطنية مستقلة، فوجود الشيء يسبق وظيفته وبدونها معًا محال الحديث عن إدارة العلاقة بينهما وإدارة علاقاتهما بالآخر (حق تقرير المصير). فحق تقرير المصير هو حق اختيار شكل الإدارة أو الحكم وتقرير شكل ومستوى العلاقة مع الآخر. الذي يختار ويقرر هو الشعب، والذي يعطيه هذا الحق هو ملكيته لإقليمه الجغرافي وسيادته عليه، فبدون تجديد الاعتراف بالشعب وسيادته على أرضه والتعامل معهما حقائق قائمة على الأرض يظل الحديث عن حق تقرير المصير محصورًا في إطاره النظري. الأمر الذي يعني أن الحق الأول (الشعب وهويته الوطنية)، الحق الثاني (السيادة الفعلية لهذا الشعب على الأرض)، يمثلان الشرطان الضروريان لتحقيق الحق الثالث (حق تقرير المصير).

أن التسلسل المنطقي لصدور قرارات مجلس الأمن في ستينات القرن الماضي بشأن شعب الجنوب يظهر الترابط العضوي والأسبقية المنطقية التي تحكم العلاقة بين الحقوق الثلاثة:

- قرار الاعتراف بالشعب هوية وطنية مستقلة.

- قرار الاعتراف بالإقليم الجغرافي بحدوده الدولية المعروفة حق سيادة لشعب الجنوب.

- قرار الاعتراف بحق شعب الجنوب في تقرير مصيره.

أسست القرارات الثلاثة بدورها لحق إعلان الدولة وصدور القرار الرابع -قرار الاعتراف بالدولة وقبولها دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة وبقية مؤسسات الشرعية الدولية.

بعد أن تمكن الجنوبيون من إعادة تشكيل وعيهم لذاتهم الوطنية، بوصفهم شعبًا بهوية وطنية مستقلة، وليسوا جزءًا من شعب آخر أو فرع من أصل، وتمكنهم من شطب هذه الأفكار الأيديولوجية الزائفة، التي علقت في الوعي الجمعي الجنوبي خلال العقود الماضية، أصبحوا على وعي بثوابت حقهم الوطني (هوية وسيادة وتقرير مصير)، تمكنوا من تحرير أرضهم باستثناء بعض الجيوب التي بقيت في مكيراس ووادي حضرموت والمهرة، لكنهم لم يتمكنوا بعد رغم ما تم إنجازه من ممارسة السيادة الفعلية على أرض الواقع، وهو أمر يتطلب نقل مبدأ حق تقرير المصير من إطاره النظري إلى الإطار العملي وهذا الانتقال يتطلب الحضور القوي لرافعة الاعتراف الإقليمي والدولي واستكمال التحرير من جيوب قوات الاحتلال المتبقية على أراضي الجنوب بالسلم أو بالحرب، كل ذلك يفسر ظهور نبرة التأكيد على حق شعب الجنوب في تقرير مصيره في خطاب القيادة السياسية لشعب الجنوب في هذه المرحلة من تطور المشروع الوطني الجنوبي، التي يتطلب فيها نقل الثقل في النضال السياسي والدبلوماسي إلى الساحة الإقليمية والدولية لاستكمال إنضاج الشروط الخارجية المكملة لإنجازات الداخل الوطني. ومن أجل تحقيق ذلك وبلوغ الانسجام بين الفعل الوطني الداخلي والفعل السياسي الدبلوماسي الخارجي، ينبغي تكثيف الجهد باتجاه الوصول إلى مواقف داعمة للمشروع الوطني الجنوبي في أعلى مراكز صناعة القرار الدولي (الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي والمجلس العالمي لحقوق الإنسان). ومطالبتها بإعادة تفعيل القرارات الدولية التي صدرت في ستينيات القرن الماضي بشأن الجنوب العربي.

وبوصف الدولة الوطنية المستقلة كانت حقيقة قائمة وتم إسقاط قرارها السيادي والمستقل (مبدأ حق تقرير المصير)، وإسقاط هوية شعبها الوطنية المستقلة في مايو 1990، واستباحة أراضيها وسلبها سيادتها في حرب الاحتلال في 1994، فدشنت مرحلة نهب أراضيها وثرواتها وتدمير ممنهج وشامل لمؤسساتها وقطاعاتها الاقتصادية الصناعية والزراعية، والمؤسسات العملية والتعليمية وكل مؤسسات المجتمع وخدماته.

لقد أحدث كل ذلك صدمة وصحوة ونهوض أفضى إلى وضع الهدف الوطني المتمثل في استعادة الدولة. وكان رفع هدف استعادة الدولة تعبير عن استيقاظ شعب ونهوض ثقافة وطنية تتأسس على الحقيقة، وتشكل وعي وطني جديد يزيح الوعي الطائف الذي سيطر على ثقافة شعب خلال أكثر من خمسة عقود مضت.

اتفق الجنوبيون على أن هدف استعادة الدولة ينبغي أن يمر بمرحلتين:

الأولى- مسار استعادة الدولة الذي سيتركز فيه الحراك النهضوي الجنوبي على استعادة الهوية الوطنية المستقلة، والتحرك من أجل تحرير الأرض وبسط السيطرة عليها.

أما المرحلة الثانية فتختص وظيفيًا بإدارة الدولة بعد استكمال مهمات المرحلة الأولى، والمبدأ المحرك لهذه المرحلة هو "حق تقرير المصير" بشقيه الداخلي والخارجي.

الشق الداخلي ويرتبط بحق الشعب في اختيار شكل دولته (فيدرالية، بسيطة) وشكل نظام الحكم فيها، دستورها، علمها، اسم هويتها، عاصمتها.. الخ.

أما الشق الخارجي فيرتبط بشكل ومستوى علاقة هذه الدولة بالدول الأخرى، ومن غير الممكن الشروع بتطبيق الشق الخارجي دون الانتهاء من الشق الداخلي وتصبح الدولة حقيقة قائمة على الأرض.

لكل مرحلة وظائفها ومهماتها وترتبط ببعضها ارتباط عضوي وتحكم علاقاتها أسبقية منطقية وزمانية يصعب تجاوزها.

إن التشوش القائم حول مبدأ " حق تقرير المصير" في الوعي الجمعي لشرائح واسعة من أبناء شعب الجنوب مرده غياب وعي الترابط والعلاقة بين الحقوق الثلاثة، ومنطقية التسلسل والأسبقية التي تحكمها، فوجود الشعب وسيطرته على إقليمه الجغرافي شرطان أسياسيان للبدء في المسار الثالث- مسار التنفيذ الفعلي لـ"حق تقرير المصير".

* أستاذ الفلسفة السياسية المساعد كلية الآداب جامعة عدن.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى