من المحاضرة إلى الحظيرة.. الحرب تدفع عميد كلية إلى تربية الأغنام

> «الأيام» إندبندت عربية:

> بلغت أوضاع اليمن حدًا لم تعد سنوات العمر التي قضاها الأستاذ الجامعي بين طلابه وأروقة كلياته، كافية لحمايته من صنوف الدهر وتقلبات الزمن الصعب، ليجد نفسه مكشوف الظهر لجلدات واقع لطالما بحث في تعرية تقلباته ومزاج صناعه قبل أن يقع ضحيته. ومثلما بات يعيش منسيًا إلى الحد الذي لم يعد يجد فيه قوت يومه، يكتشف أنه وحيدًا كالسيف المضنى دون سؤال من سلطات متعاقبة غارقة في الصراع السياسي، بفعل لسان حال الحرب التي أنتجت معادلة فادحة، أحالت المكانة والسطوة لحملة السلاح والحضور القبلي، وأفرغت العلماء والأساتذة الأكاديميين من مكانتهم العلمية والاجتماعية.

من المحاضرة إلى الحظيرة

من هنا يمكن فهم أحد تجليات الأزمة الموغلة التي بلغها اليمن على نحو غير مسبوق، وهي حال تكشف بجلاء عن أن القادم الذي يخرج من عباءة العنف وصراع الإزاحة المحموم هو الأشد قتامة على العلماء وحملة الفكر. وجاء مقطع فيديو متداول على نطاق واسع في اليمن يظهر خلاله عميد كلية التربية السابق بمحافظة شبوة ناصر العيشي، وهو يشتري بعض الأعلاف للمواشي التي يربيها، ليذكر بالمأساة الإنسانية التي يشهدها اليمن، وصنفت بالأسوأ على مستوى العالم وفقًا للأمم المتحدة.

والعيشي أكاديمي يمني ولد في شبوة بنهاية الستينيات، وحاصل على شهادتي الماجستير والدكتوراة في اللغة العربية من العراق، الذي حاز فيه شهادة الدكتوراة بعنوان "الخلاف النحوي في القراءات القرآنية"، التي عدت بحسب باحثين مرجعًا إضافيًا فريدًا، وتدرج منذ عقود مضت في السلك الأكاديمي حتى وصل لعمادة كلية التربية بمحافظة شبوة النفطية (شرق اليمن). حتى ما قبل الحرب التي أشعلها الانقلاب الحوثي في عام 2014.

وأثار المقطع ردود فعل واسعة، واعتبره رواد مواقع التواصل الاجتماعي تعبيرًا عن الحالة الصعبة التي وصل إليها اليمنيون، وفي مقدمتهم العلماء والأكاديميون جراء حالة الصراع التي تعصف بالبلد منذ سنوات، خصوصًا العيشي الذي عرف بحضوره المؤثر في ميادين التعليم الجامعي والأدبي والشعري.

يقول العيشي: إن ظهوره في سوق العلف كان سببه "مجيئي لشراء علف لبعض الأغنام التي أعطيت لي من بعض الأقارب، لكي أستفيد من تربيتها وتكاثرها في حياتي المعيشية". ويوضح أن البعض أساء تداول المقطع "ظنًا منهم أنهم يشوهون الأستاذ الجامعي ومكانته العلمية، وهم يجهلون أن كثيرًا من رجالات العالم قد اشتغلوا في مهن وضيعة، لم تؤثر في شخوصهم وحازوا مكانة علمية وعملية رفيعة".

الشهادة في مزاد لقمة العيش

يضيف بصوت تعلوه حشرجة حزينة تحاول جمع كبرياء الأستاذ الذي شغل الكليات بأطروحاته وأوراقه المثيرة، أن "بعض أساتذة الجامعة ارتادوا العمل في الأسواق الشعبية لتحسين مستوياتهم المادية، فهناك من اشتغل ببيع القات وآخرون ببيع الذرة الشامية في عربات يدوية، وكثير منهم يذهبون إلى الجامعات الخاصة والمدارس الخاصة، أو يذهبون إلى بيوت التجار والمسؤولين والقادة العسكريين، ليقوموا بتدريس أبنائهم مقابل مبالغ زهيدة، لا تغطي المستلزمات المادية المعيشية والتعليمية لأبناء هؤلاء الأساتذة، ناهيك عن حاجاتهم العلمية كأساتذة".

وفقًا لدراسة أعدها موقع دراسات يمني متخصص في الشؤون الأكاديمية العربية، كشف عن أنه "مع اقتراب الحرب اليمنية من الدخول في عامها التاسع، يعيش أساتذة الجامعات في مختلف أنحاء البلاد أوضاعًا مأسوية متفاوتة، تتفاقم حدة سوئها في مناطق سيطرة الحوثيين، شمالي البلاد، إثر انقطاع مرتباتهم منذ أواخر عام 2016، ما دفع كثيرًا منهم للبحث عن أي أعمال أخرى، توفر لهم أقل قدر من الحياة الكريمة، في حين لجأ آخرون إلى بيع مقتنياتهم الشخصية وأثاثهم المنزلي، لتوفير إيجار مسكن لأسرهم وسد حاجاتهم".

السياسة والدراسة

يرجع هذه الحال الصعب إلى ما قال إنه "الإقصاء والتهميش والحرمان التي غدت كلها عنوان المرحلة في الجامعات". ويتابع "هناك كثير من زملائي يعانون ما أعاني ويعانيه الكادر الجامعي منذ حرب 1994"، في إشارة إلى الحرب الأهلية التي انتهت باجتياح قوات الرئيس الراحل علي عبدالله صالح "الشمالية" مناطق الجنوب بعد خلاف طرفي دولة الوحدة التي جرت بين شطري اليمن عام 1990.

أما الأسباب التي أدت إلى ذلك، فهي من وجهة نظره "عديدة أصابت العمل الجامعي في مقتل، منها تدخل الأحزاب النافذة كالمؤتمر الشعبي، والإصلاح، والقبائل، والمناطق، والعائلات، والمال، والمنافع المادية الأخرى، وهذه جميعها جعلت القانون الجامعي ولوائحه مشطوبة من التعامل، فأتى الفاسدون بمعايير تحقق لهم مآربهم في الارتقاء والتنصيب والتوظيف".

ونتيجة حال الصراع السياسي الذي لا يهدأ في اليمن، يشير العيشي هنا إلى ما تعرض له "فقد حوربت من رئيس الجامعة حينها (منذ ما بعد حرب عام 1994) ومن السلطة المحلية في المحافظة والسلطة المركزية، محتجين بأنني أحارب المؤتمر الشعبي العام (حزب الرئيس صالح) وأبناء القبائل عندما طرحت فكرة إبعاد العمل السياسي عن العمل الجامعي، وإبعاد العاجزين علميًا عن التوظيف في السلك الجامعي، وإعطاء أوائل الخريجين من الطلاب الحق الأول في التوظيف، ومنع استقطاب أصحاب الولاءات غير العلمية في الجامعة، من خلال تثبيت فعل القوانين واللوائح في التوظيف والدرجات العلمية واللقب العلمي والمنصب الجامعي، تلك التي أصبحت تباع وتشترى بالولاءات المذكورة آنفًا". ومنذ أغسطس 2016 تقطع ميليشيات الحوثي مرتبات الموظفين، ما تسبب في إغراق مئات الآلاف من الموظفين وبينهم أساتذة الجامعات في دوامة الفقر والتشرد والجوع.

الحال من بعضه

لم يكن العيشي وحده من يعاني ظروف البيئة الطاردة للإنتاج البحثي والأكاديمي، كون "حال الأكاديميين في هذه البلاد واحد، فالأستاذ الجامعي الذي كان يتقاضى نحو 1800 دولار، أصبح اليوم يتقاضى أقل من 200 دولار، مبلغ متواضع لا يعادل قيمة حاجاته، التي توفر له حياة كريمة تهيئ له وعائلته الاستقرار المعيشي، ليواصل رسالته العلمية، التي تبنى بها الأوطان وتستقر وتنمو، وتحقق له حياة علمية وأكاديمية متفاعلة مع الحراك العلمي داخل البلد، وعلى مستوى الوطن العربي والعالم".

يتطرق أيضًا لافتقاد الأستاذ الجامعي "الحضور العلمي المطلوب والمواكب للمؤتمرات والمحافل الأكاديمية في الجامعات النظيرة والمؤسسات العلمية والمراكز البحثية، والمقدرة على التأليف، وطبع ونشر نتاجاته العلمية والإبداعية".

بنبرة متأثرة يخلص إلى الحالة القهرية لملايين اليمنيين التي لم تتح أمامهم، إلا أن "يخضعوا لإلغاء تلك الاستحقاقات المادية، ويبحثون عن مصدر دخل يغطي الحاجات المادية الأدنى من الاستهلاك المعيشي لأسرته فقط إن وجدت".

وفي مطلع سبتمبر الماضي أعلن نادي "الأكاديميين والموظفين في الجامعة اليمنية" الذي تأسس أخيرًا للمطالبة بصرف مرتباتهم المتأخرة على غرار نادي المعلمين، الذي يواصل إضرابًا شاملًا للأسبوع الـ12 على التوالي عن التدريس، للمطالبة بصرف مرتبات المعلمين والتربويين.

وأكد النادي الجديد في بيانه الأول أن صبر الأكاديميين وموظفي الجامعات اليمنية قد نفد، وأنهم سينتزعون مرتباتهم وحقوقهم بعد ثماني سنوات من التجاهل.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى