​الأرض العربية نقطة التقاء وتصادم المشاريع الوطنية والإقليمية والدولية

>
تتعرض الأمة العربية وشعوبها إلى تحديات وجودية هي الأخطر في تاريخها الحديث والمعاصر، إذ تتصادم في المنطقة العربية مشروعين: مشروع بناء الأمة العربية ونظامها الإقليمي، والمشروع المعادي للأمة - مشروع مايسمى ب" الشرق الأوسط الجديد" الذي تتبناه الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفائهم من الدول الاستعمارية. ومايحدث في العالم العربي ليس إلا تجليات محلية وإقليمية لصراع دولي أوسع يتمثل في تصادم مشروع هيمنة النظام القائم على القطب الواحد، والمشروع المناهض للهيمنة الرامي إلى بناء نظام دولي جديد يقوم على تعدد الأقطاب تتقدمه روسيا والصين ومعهم معظم دول العالم ويهدف إلى تحقيق العدالة الدولية.

يشير كل ذلك أن الصراع الدائر في المنطقة العربية ليس صراعا معزولا يخص الأمة العربية وحدها، فله امتداداته الدولية والإقليمية والمحلية. فما حدث ويحدث من تفكيك وتدمير للشعوب العربية ودولها الوطنية هو تدمير لأجزاء الأمة واعمدتها، وهو بالتالي تدمير للأمة ونظامها الإقليمي والغاء الدور الذي ينبغي أن تلعبه في تشكيل العالم الجديد الداعم للعدالة الإنسانية، وتكريس بقاء المنطقة ومحيطها الإقليمي أدوات وأعمدة داعمة لهيمنة القطب الواحد.

ومثلما هي الشعوب العربية ودولها الوطنية تمثل اجزاء الأمة ومكوناتها الفاعلة، فإن الأمة العربية هي جزء من الكل العالمي تؤثر وتتأثر بما يحدث داخل شعوبها في المستوى الوطني، وبالمتغيرات العالمية داخل الأمم الأخرى على المستوى العالمي. وطبقا للواقع الوسطي الذي تشغله الأمة تتحدد خياراتها الوطنية والإقليمية والدولية وتتحدد ضرورات التناغم والانسجام في الموقف بين الأجزاء الوطنية (الشعوب) والكل العربي (الأمة) وتناغمها مع المسار العام للعدالة الدولية.

ينهض المشروع العربي على قاعدة الحفاظ على الخارطة السياسية للشعوب العربية ودولها الوطنية التي قامت بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية وتعزيز وحدتها الوطنية، وتطوير علاقات التعاون والتكامل والتحالف بين الشعوب العربية بوصفها أجزاء الأمة ومكوناتها وصولاً إلى تقويتها وبناء النظام الإقليمي العربي ليشكل في النهاية عنصر توازن لفرض العدالة في العلاقات مع الأمم الأخرى ويلبي متطلبات حماية الأمة وشعوبها.

لقد جعل الله الإنسانية في تنظيم بنيوي حلقاته الشعوب والأمم، إذ جعل الشعوب أوعية اقتسام الحق في الأرض بين البشر وجعل الأمم سياج القوة المعنية بحماية شعوبها وانتصار العدالة سواء في العلاقات البينية بين مكونات الأمة، أو في علاقات الأمة مع الأمم الأخرى.

أن هذا التنظيم البنيوي للإنسانية يعد تجسيداً لإرادة الخالق قالت به الشرائع السماوية وانجزته مسارات التاريخ البشري وشرعنته القوانين الوضعية. بالشعوب تحددت حقوق كل شعب، وبحلقة الأمم يتم تحقيق وظيفة حماية الشعوب وتأمين سيادة كل شعب على أرضه، وبالتناغم بينهما تتحقق العدالة في المستويات الوطنية والإقليمية والدولية.

تعود أزمة الأمة وفشل النظام الإقليمي العربي خلال العقود الماضية -تعود إلى تغييب علاقات التكامل بين الكل وأجزاءه، علاقة الأمة بشعوبها، إذ ظل الفصل بين الأمة وشعوبها (بين الحق والقوة) سيد المشهد، فكان الحديث حينها عن الواحد العربي وإسقاط التعدد الوطني، فرفعت شعارات " شعب عربي واحد "، "أمة عربية واحدة "، وتكييف الوعي الجمعي العربي على الدمج بين المفهومين واعطائهما معنى واحد. وكان ذلك السبب المباشر لفشل المشروع القومي العربي (مشروع بناء الأمة ونظامها الإقليمي).

وبنتيجة هذا الفشل غلب الانتماء للشعوب واسقط من الوعي الجمعي الانتماء للكل العربي( الانتماء للأمة) وهو عمليا فصل الحق عن القوة، وكانت النتيجة ضعف الشعوب وابتعادها عن بعضها وانفصالها عن الكل الرابط بينهما، وأصبحت فريسة سهلة لمن هو أقوى منها سواء كان ذلك القوي داخلي او خارجي والقوي الداخلي يصبح ضعيف للغاية في العلاقة مع الخارج. هذا حدث مع الكويت على يد العراق ثم يحدث الأمر نفسه مع العراق على يد أمريكا وحدث أيضاً مع شعب الجنوب العربي (اليمن الجنوبي) على يد اليمن الشمالي ويتكرر الأمر مع السودان، ومع لبنان، ومع فلسطين ومع سوريا ومع العراق ثانية على يد إيران..الخ، وما حدث ويحدث مع فلسطين أوضح مثال لغياب مظلة الأمة السياج الحامي لشعوبها.

فالأمم لا تقوم على إلغاء أجزائها المكونة لها، بل على دعمها وتقويتها، فبالتعاون والتكامل بينهما تبنى قوة الأمم- العلاقة تكاملية بين الكل وأجزائه، بين الأمة وشعوبها، وولاء الناس لشعوبهم ودولهم الوطنية، ثم للأمة التي ينتمون إليها هو ولاء للخالق وطاعه لإرادته الذي جعل الناس موزعين بين الشعوب والأمم لتحديد حقوقهم ومعرفة حقوق بعضهم بعضا- وبالنتيجة فهو ولاء للحق والعدالة.

يقوم البناء الإنساني على حلقات الشعوب والأمم واتحادات الأمم، وخلافاً لذلك فهو خروج عن النظام الطبيعي والولوج في فوضى التصادم والصراع والحروب ومؤشراً للعصيان والخروج عن إرادة الخالق ومخالفة لإرادة التاريخ وإرادة القانون.

يأتي مشروع الشرق الأوسط بكل أهدافه ومراحله ليمثل اسطع نموذج معادي للحق والقانون، مشروع للهدم وإشعال فوضى الصراعات والحروب، مشروع تقويض العدالة والاجهاز على الحق وتحديداته. الوطنية والإقليمية والدولية، ومن واجب المستويات الثلاثة مقاومة هذا المشروع وهزيمته وتتحمل الأمة العربية وشعوبها العبئ الأوفر في هذه المقاومة، فهي "خير أمة أخرجت للناس" وعليها أن تتصدى لأي ضرر يضرها ويضر بالناس وتزيح كل ما يعيق دورها لتصبح رقم فاعل في معادلات بناء العالم الجديد، فهذا قدر الأمة العربية عبر التاريخ كله. في الأرض العربية هزمت أعتى امبراطوريات العالم القديم (الفرس-والروم) وهزمت الغزوات الصليبية والامبراطوريات الاستعمارية والمواجهة اليوم مع من يريد هيمنة امبراطوريات جديدة في عالم القرن الواحد والعشرين.

أن التصدي لمشروع الشرق الأوسط يشترط فهمه وفهم أهدافه ومراحله، إذ تعود الجذور الأولى لمشاريع هدم الأمة العربية ومنع تشكلها إلى قرون خلت وبلغت ذروتها في مطلع القرن العشرين ودشنت المرحلة الأولى لهذا المشروع بعقد مؤتمر مايسمى ب" مؤتمر علماء أوروبا" الذي دعا له رئيس وزراء بريطانيا هنري كامبل بانرمان في 1907. وأول ما استهدفت مخرجاته تقويض تسمية الأمة العربية والنظام الإقليمي العربي، وإحلال محلها تسمية "الشرق الأوسط"، ومن النتائج التي تضمنتها مخرجات ذلك المؤتمر هو أيصاء المؤتمر  بقيام دولة إسرائيل واختيار فلسطين موقعاً لجغرافية هذه الدولة لفصل المشرق العربي عن مغربه، وعقد اتفاق بين القوى الاستعمارية لتقسيم المنطقة العربية ووضعها تحت النفوذ المباشر للدول الاستعمارية (اتفاق سايكس-بيكو).

كرس مخطط تدمير الأمة في مرحلته الأولى لتفكيك الأمة ومنع إعادة تشكيلها بعد الخروج العثماني من الأرض العربية وتقسيم جغرافيتها إلى مناطق نفوذ بين الدول الاستعمارية.

المرحلة الثانية: 
تشمل المتغيرات الدولية التي شهدها العالم في النصف الثاني من القرن العشرين وتحديداً بعد الحرب العالمية الثانية، وظهور التوازن الدولي القائم على الثنائية القطيية، أذ ساعدت تلك المتغيرات الكبرى في العالم على تقويض النظام الاستعماري ونيل الشعوب العربية استقلالها ونشوء دولها الوطنية المستقلة التي أصبحت دولاً كاملة العضوية في الأمم المتحدة وفي بقية مؤسسات الشرعية الدولية. كان ذلك بداية لاستعادة أجزاء الأمة  وإعادة بنائها، وأسست الجامعة العربية كخطوة في طريق بناء النظام الإقليمي العربي.

لم يكن لدى العرب ودولهم الوطنية برنامج واضح لبناء دولهم والتوجة صوب بناء التعاون والتكامل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي كمجموعة  مستقلة على غرار ما عملته الصين والهند وغيرها، فوقعت مكونات الأمة العربية في شباك الاستقطاب الدولي وتوزعت مراكز نفوذ تقاسمتها الثنائية القطبية، فأضاعوا فرصة تاريخية أتت إليهم بفعل وجود التوازن الدولي، ودفنت هذه الفرصة بانهيار التوازن الدولي عام 1990 وظهور نظام القطب الواحد.

المرحلة الثالثة: 
بدأت بالتزامن مع انهيار النظام الدولي القائم على الثنائية القطبية في أوائل تسعينيات القرن العشرين، حين سارعت الولايات المتحدة الأمريكية للترويج للنظام الدولي الجديد القائم على هيمنة القطب الواحد، وحددت مفاتيحه بتطويق وإضعاف روسيا والصين وتحييدهما من الانخراط في بناء عالم ما بعد الثنائية القطبية وضمان تبعية أوروبا الاستعمارية للنفوذ الأمريكي وكبح جماح الرغبة الأوروبية في بناء أوروبا الموحدة لتصير قطب من أقطاب المعادلة الدولية الجديدة.

خططت الولايات المتحدة بأن عوامل نجاح أو فشل مشروعها في فرض هيمنة القطب الواحد تكمن في البؤر الثلاث ( روسيا والصين وأوروبا الموحدة الطامعة في الخروج من الهيمنة الأمريكية) ، وترى أن السيطرة على جغرافية العالم العربي ومحيطه الإقليمي تعد مفتاح السيطرة على العالم كله، فالمميزات الجيوسياسية للمنطقة العربية تقول ذلك.

هذا المنطق في السياسة العالمية سبق وأن اسست له الدول الاستعمارية الأوروبية وبوجه خاص بريطانيا وبناء على ذلك ظهر مشروع الشرق الأوسط في أوائل القرن العشرين الذي قطعت مساره الثنائية القطبية في النصف الثاني من القرن العشرين، وبعد انهيارها تبنت الولايات المتحدة الأمريكية إعادة الروح لهذا المشروع تحت مسمى  " الشرق الأوسط الجديد " الذي جاء مواصلا لأهداف مشروع الشرق الأوسط، إذ كان هدفه في مرحلته الأولى تفكيك الأمة العربية، اما في نسخته الجديدة فتحددت أهدافه بتفكيك شعوبها ودولها الوطنية ، واعتمدت استعمال الايديولوجيات العقائدية العرقية والمذهبية وتفجير الصراع بينها وإدخالها في ما سمي "بالفوضى الخلاقة" أدوات لتفكيك الشعوب العربية ودولها الوطنية.

تمثل الايديولوجيات المذهبية والعرقية والمعتقدات الفكرية السياسية افضل الأدوات لضرب أوعية الحق والقوة (الأمة وشعوبها)، فهي بطبيعتها متنافرة متصادمة مع بعضها ، الأمر الذي يجعلها تمثل السبب المباشر للصراع والاحتراب الداخلي، ومن ثم فهي أفضل وسيلة لتفكيك الشعوب وتدمير وحدتها الوطنية وهي بخاصيتها العابرة للحدود تتحول إلى  بوابة عبور الخارج إلى الداخل الوطني والتحكم بمساراته.

بمعنى آخر أننا أمام مشروعين لكل مشروع مربعه الخاص يتميز فيه عن الاخر بخطابه الإعلامي ومواقفه، إذ نجد وحدة الخطاب الاعلامي ووحدة المواقف حين يكون المربع الذي نتحدث عنه مربع الشعوب ووحدتها الوطنية والأمة وتكامل مكوناتها، ونجد التنافر في الخطاب الإعلامي والمواقف المتصادمة حين يكون الحديث عن مربع المعتقدات الأيديولوجية المذهبية والعرقية. ويتحدد نجاح أو فشل المشروع العروبي أو مشروع الشرق الأوسط الجديد على اي من المربعين سيسود ويتحكم بتوجيه سلوك الناس والتحكم باتجاهاتهم وولاءاتهم .

المرحلة الرابعة:
تتركز وظائفها على تصويب المسارات وحسم الخيارات، وتبدأ بوضع العناوين العامة للمرحلة في المستويات الثلاثة: الوطني والإقليمي والدولي.

أولاً: في البعد الوطني:
1- تعمل معاً كل من أنظمة الحكم والشعوب على اتخاذ خطوات حاسمة على الاقتراب من بعضهما وانهاء حالة التضاد بينهما وردم الفجوة التي تفصلهما والقضاء على كل أسباب ومبررات التواصل بين المعارضة والخارج وإغلاق الأبواب أمام تدخلات الدول الخارجية في الشأن الداخلي تحت أي غطاء كان ديني، مذهبي، عرقي وغير ذلك من الايديولوجيات السياسية.
2- مراجعة تصحيح الولاءات وجعل الولاء الوطني هو سيد الولاءات بعد الولاء للخالق عز وجل.
3- إسقاط الولاءات المذهبية والعرقية والايديولوجية السياسية التي تستخدمها مراكز النفوذ الخارجية بمثابة جسور لعبور الخارج للعبث بالهوية والسيادة والقرار السيادي المستقل في العديد من البلدان العربية ومدخلا للتحول من الولاء للخارج وإحلال محله الولاء الوطني.
4- انخراط الشعوب العربية في التعاون والتكامل على طريق بناء الأمة ونظامها الإقليمي.

ثانياً: في البعد الإقليمي:
1- الجمع بين التعدد الوطني الداخلي في العلاقات البينية الداخلية وواحدية الوجه الخارجي في العلاقات مع الأمم الأخرى.
 2- تسريع التعاون والتكامل بين الشعوب العربية ودولها الوطنية وتطوير الجامعة العربية لتصبح أساساً لبناء نظام إقليمي عربي متماسك اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً قوياً معني في الدفاع عن حدود الأمة وحماية حقوق شعوبها.
3- تطوير التعاون والتكامل في السياسات الخارجية والدفاعية بين مكونات النظام الإقليمي العربي.
4- تطوير علاقات النظام الإقليمي العربي ليكون له تمثيل سياسي دبلماسي مع اتحادات الأمم المقابلة.

ثالثاً: في البعد الدولي:
1- الإسهام في تعزيز الحراك الدولي الرامي إلى بناء عالم متعدد الأقطاب يقوم على التوازن واحترام الحق وتحقيق العدالة.
2- الإسهام في إعادة بناء مؤسسات الشرعية الدولية بما يؤمن تجسيد فكرة وجودها وقدرتها على تأدية وظائفها.

*أستاذ الفلسفة السياسية المساعد كلية الآداب جامعة عدن

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى