لماذا أزهر "الربيع" في إندونيسيا وسقطت أوراقه في اليمن؟

> د. محمد الميتمي:

> ​غض النظر عن مدى سلامة المصطلح الذي كُنيت به الاحتجاجات الشعبية التي عصفت بالكثير من البلدان تكلل بعضها بالنجاح في ما أصاب الغالبية منها الفشل ومن بينها اليمن. كثيرون هم من رأوا أن مصطلح الربيع تم صكه في الصحافة الغربية كناية عن طبيعته الموسمية. فكل ربيع لا يدوم على حال، كما هو حال “الربيع اليمني” الذي أعقبه موسم صيف ساخن احترقت تحت أشعته الحارقة زهور الربيع، تلاه خريف عرّى أشجاره من أوراقها لينتهي به الأمر بشتاء طويل وقارس. بخلاف المصطلح الذي صكته ذات الصحافة على الاحتجاجات في أوروبا الشرقية والتي وصفتها بالثورات الملونة. وليس المقام هنا لتفسير معنى ودلالة تلك المصطلحات، فإننا نتركها للقارئ ذاته للتأمل والاستنتاج.

ما نصبو إليه في هذا المقال هو التأمل في الأسباب والدوافع الداخلية التي قادت إلى هذه النكبة التي حلت باليمن من انهيار وعنف واقتتال ويأس وقنوط بعد سنوات من منسوب الأمل الذي ارتفع عاليا مع صرخات الشارع اليمني الذي اندفع بلا قيادة موحدة ولا ضوابط ولا قواعد ولا معايير حاكمة، فجعل في الختام من نفسه نهبا للنزعات الأيديولوجية المحلية بمختلف اتجاهاتها وتجلياتها ومسرحا للمطامع الإقليمية والدولية. في ما تكللت احتجاجات الشارع الإندونيسي في ربيع عام 1998 بالنجاح ليصبح هذا البلد الرابع في العالم من حيث عدد السكان أكثر الديمقراطيات نجاحا.

هذا البلد الكبير ويا للمفارقة يبلغ عدد سكانه 275 مليون نسمة يشكل المسلمون نسبة 86 في المئة من إجمالي السكان بالإضافة إلى المسيحيين (9 في المئة)، والهندوس (3 في المئة) والبوذيين (2 في المئة) وأقليات أخرى يعيشون على أكثر من 17508 جزيرة معظمها بركانية متناثرة بمساحة إجمالية تناهز1.905 مليون كيلومتر مربع ويتحدث سكانه أكثر من 700 لغة. إنه بلد متنوع الثقافات والهويات والأديان واللغات شديد التناقض لكنه يعيش اليوم بسلام ووئام ورخاء. فكيف حدث ذلك ولم يحدث في بلد كاليمن يبلغ حجم سكانه أقل بتسعة مرات حجم سكان إندونيسيا ومعدل الكثافة الخام للسكان أقل بنحو مرتين ونصف عن معدل الكثافة الخام في إندونيسيا.

في اليمن يتحدث أهله جميعا لغة واحدة هي اللغة العربية، ويدينون بديانة واحدة هي الاسلام ولهم ثقافة وتراث وتاريخ عريق واحد يمتد لآلاف السنين، ومع كل ذلك فهو يعيش اليوم أقصى درجات التمزق والانحطاط الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.

عندما خرج سكان إندونيسيا إلى الشوارع في ربيع 1998 يطالبون برحيل رئيسهم سوهارتو الذي حكم البلاد بقبضة من حديد لمدة ثلاثين عاما توقع المراقبون أن يتجه هذا البلد نحو الكارثة المحققة لينهار اقتصاده ويتفكك المجتمع. فقد توقعت صحيفة “التايمز” الأميركية لهذه الأمة أن تحترق، وعلقت صحيفة “نيويورك تايمز” أن إندونيسيا تواجه أخطر السنوات في تاريخها. كثيرة هي الاحتمالات والتوقعات السوداوية التي رسمها المراقبون والمحللون لمصير هذا البلد الشاسع المساحة كثير السكان مع موجة الربيع الإندونيسي، ففاجأ الجميع وخالف التوقعات ليصبح بلدا ينعم بالديمقراطية والرخاء الاقتصادي.

غدت إندونيسيا أكبر اقتصاد في جنوب شرق آسيا، لتصنف على أنها دولة صناعية جديدة وعضو في مجموعة العشرين. سجّل الناتج المحلي الإجمالي تصاعدا مستمرا فحققت أعلى المعدلات في العالم بعد الهند حيث بلغ هذا المتوسط خلال السنوات الأخيرة نحو 5.4 في المئة، كما ارتفع نصيب الفرد من الناتج إلى 15000 دولار أميركي وفقا لتعادل القدرة الشرائية وانخفض معدل الفقر المدقع إلى 2.5 في المئة من السكان والبطالة إلى أقل من 6 في المئة من إجمالي قوة العمل. والنتيجة الملموسة هي انخفاض درجة اللامساواة في الدخل والإنفاق حيث بلغ معامل جيني عام 2021 حوالي 0.37.

صحيح أن الرئيس سوهارتو طبقا لمعارضيه كان حاكما مستبدا، لكنه حافظ خلال فترة حكمه الذي دام 30 عاما واتسم بالعلمانية على حضور الدولة ووحدة هذا البلد شديد التنوع. كان الاقتصاد في عهده ينمو بمتوسط سنوي وقدره 7 في المئة وهو من بين أعلى المعدلات في العالم. حال سوهارتو خلال حكمه دون بروز أيّ تناقضات مذهبية أو دينية أو ثقافية حادة بين مواطني البلد الواحد، واحتوى كل المساعي والمحاولات للجماعات الدينية من مختلف المذاهب والأديان والثقافات للاستقطاب والعداوات.

على النقيض من ذلك في اليمن الذي كانت فيه الدولة مؤسسة غائبة مغيبة في ما عدا حواضر قليلة تعد على أصابع اليد الواحدة وعلى رأسها العاصمة صنعاء. ظل الاحتكام إلى العرف القبلي وأحكام الوجاهات الاجتماعية والدينية أقوى وأنفذ وأوسع انتشارا من قوانين وأحكام الدولة ودستورها. ظل النمو الاقتصادي يمشي بتثاقل شديد لا يتعدى خلال العقود الثلاثة الأخيرة 3.9 في المئة في المتوسط سنويا يشكل الناتج النفطي النصيب الأكبر من هذه النمو فضلا على أن ثلاثة أرباع هذا النمو يذهب لصالح الفئات الغنية كثمرة سامة من ثمار المحسوبية والفساد. يشرح البنك الدولي في أحدث تقاريره عن الضرر الذي الحقه الفساد باليمن قائلا: تميز اليمن قبل الحرب بنظام محسوبية معقد وعميق الجذور، طوال تسعينات القرن العشرين حتى مطلع القرن الحادي العشرين، حيث سيطر الفساد والبحث عن الريع على المجالين العام والخاص.

اضطر هذا النظام لكي يبقى قائما ومستقرا إلى استيعاب عدد متزايد من الزبائن الجدد مع ازدياد أعداد السكان والفئات المقصيّة سابقا التي اكتسبت مع الوقت النفوذ السلطة. وقد ترسخ لدى البنك الدولي والعديد من الدول والمنظمات المانحة تصوّر عن فساد الدولة في اليمن على أنه من بين أعلى المعدلات في العالم، وهو الذي قاد في خاتمة المطاف من بين عوامل أخرى إلى تمهيد الطريق للصراع العنيف والمسلح. حيث أدى تراجع إنتاج النفط من 465 ألف برميل يوميا عام 2002 إلى أقل من 200 ألف برميل بحلول نهاية 2010م إلى احتدام المنافسة الشرسة بين شبكة التحالف المهيمن الذي يمسك بخناق السياسة والاقتصاد والمجتمع.

وسعى كل فريق من أعضاء هذا التحالف بالاستئثار لصالحه بحصص أكبر من مجموعة الموارد المتقلِّصة. وبدلا من تنفيذ إصلاحات مؤلمة لكنها ضرورية لتعزيز النمو خارج قطاع النفط، اختاروا القتال بدلا من التفاهم والتسوية، والإقصاء بدلا من التعايش. إلا أنه لا بد من التوضيح أن اليمنيين لم يخترعوا الفساد، فهو موجود بدرجات متفاوتة في كل دول العالم بلا استثناء بما في ذلك المنظمات الدولية التي تحارب الفساد. الفرق في اليمن أنه أصبح سرطانا من الدرجة الأولي لا بد من استئصاله لكي تستقيم الدولة ويتعافى المجتمع.

انتشرت معدلات الفقر والبطالة بشكل واسع في عقد التسعينات والعقد الأول من القرن الحادي العشرين. ليغدو اليمن اليوم الأفقر في الشرق الأوسط ومن بين الأشد فقرا على المستوى العالمي. وبلغ معدل الفقر نحو 65 في المئة من السكان ومعدل البطالة أكثر من 60 في المئة في ما حقق النمو الاقتصادي معدلات نمو سلبية خطيرة تمت ترجمته إلى المزيد من الفقر والإملاق وعدم المساواة.

ويتوقع البنك الدولي أن أزمة الأمن الغذائي الحاد في اليمن التي هي في تفاقم مستمر أن تبلغ حدا من الانتشار تصل إلى 99 في المئة هذا العام مقارنة بـ10 في المئة عام 2005. وإذا كانت نسبة الأمية مع بداية ما أطلق عليه بعام الربيع اليمني عام 2011 كانت قد بلغت نحو 36 في المئة فإنه بعد مرور عشر سنوات من الحرب الضروس وتدمير البنية الأساسية التعليمية فإن هذه النسبة اليوم لا شك قد تضاعفت. حيث تشير التقارير إلى أن أكثر من 3.5 مليون طفل في سن المدرسة خارج التعليم الأساسي. الأخطر من ذلك هو بروز وانتشار الحركات الاجتماعية الدينية المتطرفة، والمذاهب المتصادمة، والأيدولوجيات اليمينية واليسارية والقومجية المتناحرة، والهويات والعصبيات القبلية والطائفية والمناطقية الفتاكة، التي كان لبعض القيادات السياسية والمجتمعية في اليمن دور كبير في بذرها ونشرها وتأجيجها.

في المقابل لعب القادة السياسيون الكبار الذين تزعموا إندونيسيا بعد الإطاحة بسوهارتو دورا رياديا وجوهريا في الحفاظ على نهج الحريات والديمقراطية الأصيلة ومؤامتها مع القيم الإسلامية التي يؤمن بها غالبية المجتمع بعيدا عن نهج التشدد والتطرف، ورسخوا أركان ومؤسسات العلم والمعرفة وقواعد المجتمع العقلاني العصري الحديث، وحافظوا بكل السبل والإمكانات على سلامة النسيج الاجتماعي من التهتك وعلى الوحدة الوطنية من التشظي وتآزروا على وحدة وسلامة أراضي إندونيسيا من الانتهاك.

كان المراقبون الدوليون على عكس إندونيسيا ينظرون بتفاؤل إلى مسار ما أطلق عليه “الربيع اليمني” باعتباره نموذجا مميزا للاحتجاجات السلمية، حتى ظنّ بعضهم مبالغا أن هذا الربيع يمكن أن يشكل نموذجا ناصعا يحتذى به لبقية دول العالم النامي، وعقد مجلس الأمن اجتماعا له في صنعاء في عام 2013 تأييدا لزخم هذا “الربيع”. لكنّ المراقبين أغفلوا النار التي كانت تعتمل تحت الرماد. وهي نار كانت متقدة لعقود طويلة من الإفقار والبطالة والتهميش والإقصاء، عقود من الفشل المؤسسي والعلمي والتعليمي، الفشل الفكري والثقافي التي تعد جميعها ركائز أساسية للنهضة والتقدم والسلام الاجتماعي.

كانت نسبة الأمية في إندونيسيا عام 1940 في فترة الاستعمار الهولندي 90 في المئة لينقلب حال الأمة الإندونيسية بعد الاستقلال ليصبح هذا المعدل اليوم لا يزيد عن 6 في المئة. خرج اليمن من حكم الأئمة والاستعمار البريطاني بمعدل أمية ساحق لا يشبهه في ذلك مكان على وجه الأرض. وبالرغم من أن التعليم الحديث بدأ ينتشر عموديا وأفقيا منذ مطلع السبعينات والثمانينات والأمية تنحسر، بل وانحسرت في جنوب البلاد إلى ما دون 5 في المئة، فإن هذه المسار مع الأسف بدأ يعكس اتجاهه منذ مطلع التسعينات ليبلغ معدل الأمية في الوقت الراهن نسباً شاهقة علامةً على أمة تغرق في الأمية والجهل والتخلف. ومما زاد الطين بلة أن التعليم الديني القائم على نزعات سياسية وأيديولوجية أصبح شائعا بدرجة كبيرة حيث غدت عدد ساعات الحصص الدينية في المدارس الحكومية تقدر بنحو 13 ساعة أسبوعيا وهي الأعلى من حيث معدل في العالم العربي والإسلامي مقارنة بتسع ساعات في المتوسط في بعض الدول الإسلامية المتشددة.

كانت المدراس والمعاهد والمراكز الدينية من مختلف المذاهب المتناقضة المتناحرة المتخاصمة في اليمن خلال نصف القرن الماضي تتنافس في ما بينها بشراسة على اجتذاب الطلاب والطالبات مخلفة جيلا مشحونا بالاستقطاب المذهبي الذي يزعزع الوحدة الوطنية ويفكك روح الدولة الواحدة والمجتمع الواحد. تم تسييس الدين في اليمن على نحو لا يقارن بالرغم من أن الدين الذين تنبع منه جميع المذاهب في اليمن هو دين واحد وهو ديننا الإسلامي الحنيف، الذي تجمع رسالته العظيمة وقيمه السمحاء الأمة لا تفرقها.

عمل الاقتصاد المزدهر في إندونيسيا والتعليم الحديث على تماسك المجتمع الإندونيسي أمام الهزات الاجتماعية العنيفة التي عصفت بالبلاد ذات اللغات المختلفة والديانات المتعددة والثقافات المتنوعة، في ما قاد التعليم الكسيح والاقتصاد المنهار في اليمن والفساد والفقر والبطالة الشاسعة والأمية الكاسحة والتخلف العميق المجتمع اليمني ذات الثقافة والديانة الواحدة، ومنبع اللغة العربية التي نطق بها القرآن الكريم إلى حال من التمزق والاختلاف والاحتراب بشكل لم يشهد اليمن له مثيلا من قبل.

عندما سأل مهاتير محمد مؤسس نهضة ماليزيا التي كانت تكابد المشقات العظام من التمزق والهويات المتناقضة والأديان واللغات العديدة قبل نهضتها على يديه عن كيف لليمن أن يخرج من محنته الراهنة أجاب باقتضاب: عليكم بتعليم وطني حديث يجمع شتات الأمة ويكون رافعة النهضة والتقدم والسلام الاجتماعي، ومع الأسف فما يجري الآن عكس هذه المقولة. التعليم العصري الحديث هو جواز سفرنا نحو المستقبل، والعقيدة الوطنية الواحدة والرؤية الموحدة هي الغراء الذي يلم شمل هذه الأمة ويطبب نسيجها الممزق، واستئصال سرطان الفساد هو الترياق الذي به نتعافى من كربتنا. ومن دون ذلك سنحكم على أنفسنا بالتعفن في توابيت التخلف والجهل والأمية والضياع الأبدي.

العرب اللندنية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى