أضغاث أحلامي بين اسم الشارع وصدمتي بصوت صاحب الدباب

> عند عودتي مساءا من عملي في خورمكسر إلى كريتر وأنا أقود سيارتي ببطء شديد على الجهة اليمنى، التزامًا بقانون المرور وحتى لا يتضايق مني أصحاب السيارات المسرعة من الشباب، متأملة في ملكوت الله، ومن حسن حظي أن أعمدة الإنارة مضاءة، أستمع إلى إذاعة FM أغاني عدنية قديمة، وأحدث نفسي عن عدن الأمس الأجمل، وهذه الأيام الجو يساعد على أن تكون هادئًا و مسالمًا وحالمًا، وعند دخولي إلى كريتر تحديدًا بعد نقطة ماركيور، وعلى مرمى بصري يافطة كبيرة، تستقبلني كُتب عليها شارع الشيخ محمد بن زايد، شارع لابأس بطوله نظيف، والأشجار على حوافه من الجهتين غير أصص الورود وشاشات إعلانية وجسر يمتد فوق رأسي، وجبل يتحلى بالأنوار والعشب الأخضر على يميني وبحر بحلة لؤلؤية على يساري، وأعمدة النور على طول الشارع، والأبنية مضاءة بما فيها محكمة صيرة التي تتحدث جدران أسوارها عن نزاهة واستقلالية قضاتها (القضاء والنيابة).

وسيارات التاكسي بنفس اللون تمر من جانبي ملتزمة بالقانون، والشارع يتسع لأربع سيارات من الجهتين الذهاب والإياب، ورصيف للمارة كالمرآة تحت أقدامهم، واستمررت في الدخول إلى إمارة كريتر التي تميزت بإدارتها المحلية ومأمورها الذي يحترم أوامر القضاء، و الذي تم اختياره بناءً على معايير وخبرة وكفاءة يَشهد لها أهالي المنطقة، محبوب بينهم وليس في صفحته نقطة فساد واحدة، يقبل النقد ولا يعتبر النقد حقدًا وحسدًا عليه فيشكو ويتشكى، ويمارس عمله بشللية بغيظة، وهذا انعكس على نزاهة مديري الإدارات للمرافق الحكومية المحلية ومؤسسات الدولة في نفس الإمارة، تلك الإدارات التي تنطق أبنيتها ومداخلها من النظافة وجمال المظهر، وشوارع فرعية مسفلتة تمتد من الرزميت إلى شعب العيدروس، لا تجد فيها قصاصة ورق ولا حفنة تراب، وشوارعها الأخرى التي تفوح بعبق تاريخ من النضال والأُنس والطرب، وتخلو من البسطات والمفارش وعربيات الحديد الصغيرة (الجواري) وعوادم السيارات التي تبيع بضاعة مختلفة، والمحلات بأوجهها الزجاجية اللامعة، وبضاعة الماركات العالمية المتنوعة، والناس تتجول مبتسمة سعيدة تتعامل ببطائق الائتمان والصراف الآلي في الشراء.

لا يعيق سيرها طاولات بيع السمك والخضار، ولا يلطخ ملابسها الماء العكر، والله على تلك المولات الشاملة، سينما وصالة لعب أطفال ومطاعم ...وغيره، ولديها مواقف سيارات خاصة بها في طوابق من نفس المبنى، وكذلك المدارس الخاصة تلك المنشآت التي لم يسمح لها بأن تكون على ماهي عليه إلا بحسب قانون التخطيط الحضري، وإشراف البلدية والجهات ذات الاختصاص، ولا توجد محلات بنشر تعرقل حركة السير، بل شوارع تمر فيها السيارات في اتجاه واحد، منتظمة لا حواجز ولا حفريات خطيرة، أو مشاريع طرقات معطلة، إنما مضاءة بالألوان الزاهية البهية المتموجة بالضوء حينًا، والانطفاء اللحظي حينًا آخر، صانعة أشكالًا ثلاثية الأبعاد لشخصيات عدنية، صاغت تاريخ هذه المدينة، لا تنطفئ 24 ساعة، مثلها مثل البيوت العتيقة بطرازها العدني، ومن توافر المياه فيها أسمع تدفقها على الأنابيب لا تتوقف مثل الكهرباء، والمباني التي تضررت في الحرب مرممة بشكلها السابق على نحو أجمل مما كانت عليه. تشتم روائح زكية للبخور العدني من البيوت ومحلات العطور دون أن تؤذيك رائحة المجاري، لأن شبكة الصرف الصحي تذهب في طريقها تحت قاع الأرض لا تسبب الأوبئة والأمراض، وليس هناك باصات صغيرة تسمى الدبابات تقف أينما تريد وبمزاج من يقودها "الطفل الذي لم يتجاوز 15 سنة من عمره. أو الشاب الذي لا يحترم أحدًا".

ترى رجل الأمن بهندامه المستقيم يقف بعيدًا، يومئ برأسه تحية للمواطنين وترد له الناس التحية بأحسن منها، وتلتف في جهة أخرى ترى النساء يرتدين اللبس المفضل لديهن دون اللون الأسود. رصيف تمشي عليه النساء والرجال دون أي تحرشات جنسية ولا حتى لفظية، وهناك الشوارع الحيوية تخلو من المتسولين والذين يلتحفون أكياس الزبالة غطاءً لأجسادهم النحيلة، ولا غير الأرض مأوى لهم ولذويهم، ولا تسمع أصوات صراخ ورصاص وطماش وأبواق سيارات، لا تستمع إلا موسيقى ناعمة من محل يبيع أسطوانات قديمة، أو صالة رياضية على ناصية الشارع أو كافيه أو مساحة من الأرض تم تشجيرها، ليرفه زوارها عن أنفسهم وأطفالهم جميعها متناسقة تجاه بعضها البعض، وبجمال ما تراه تتسع حدقة عينك بفرح وغبطة، فتتنفس ملئ رئتيك هواءً نقيًا على امتداد تلك الشوارع.

كنت مبتسمة ومن يرى ابتسامتي سيتعجب كثيرًا ويدعو لي بعودة العقل. حينها كانت تمشي سيارتي بهدوء، كي لا أضايق أحدًا أو أدهس أحدًا، وأنا مذهولة بجمال انعكاس ذلك الشارع (الشيخ محمد بن زايد) والذي ببركته وبركة اسمه تغيرت مدينة كريتر أو مديرية صيرة" على النحو الذي وصفته"، نظرًا لصيته وخيره السابق وأنا أدعو له من قلبي على اللمسات التي فعلها والأنظمة التي أرساها، والكادر الذي اختاره، والقوانين التي لا تميز بين البشر بناءً على المنطقة والوساطة والمحسوبية والعنصرية، والمناطقية التي قضى عليها، والمساواة التي عممها وشروط ومعايير التعيين في الوظائف التي فرضها، والإمارة التي شيدها على أجمل طراز ونظام وقانون، وأمشي ببطء وما زلت مستمرة بدعائي له، وإذ بي فجأة... كصاعقة تجحظ لها عيناي ورعد يصيبني بداء الصفراء يأتيني صوت قبيح قائلًا: ( هيا منو ده لما يخلو الحريم تسوق سيارات). ومعه عصابة لباصات دباب في خطوط متعاكسة مخالفة، وأبواق عالية وموسيقى صاخبة، ومثل كلّ شيء لا رقيب ولا حسيب يتفقون معه ضدي و "لن أتحدث عنهم لأن الجميع يعرفهم"، فصحوت وقلت في نفسي:( معقولة، يفرح أو يستحق سموه هذا؟!، في ظل كلّ هذا العبث والعشوائية والضوضاء والفوضى والفساد والإهمال وطفح المجاري والظلام، وانعدام الماء وسوء الأخلاق ....وإلخ؟)

وبعد الصدمة التي تعرضت لها، تذكرت بأني في مدينة فقدت معالمها وملامحها وأنظمتها وقوانينها وأخلاقها، منذ حلق في سمائها طيران التحالف.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى