فتوحات أفريقيا

> تأسيس القيروان:

وفي "قمونية" -وفي هذا القطر الفسيح الذي يطل على البحر- بدأ عقبة بن نافع في اختيار موقع المدينة الجديدة. ولقد أحسن الاختيار بشهادة جميع المؤرخين؛ إذ راعى أن تكون المدينة في موضع متوسط بين الساحل والجبل، بحيث تكون بعيدة عن كل من ساحل البحر والجبل "جبل أوراس" بمسيرة يوم، وهو مدة كافية للابتعاد عن خطر المفاجأة من غزو بيزنطي بحري، أو من هجوم بربري يأتي من الجبل. كما أنه حرص على أن تكون في موقع يتمتع بوفرة المياه والمرعى والأرض الصالحة للزراعة.

وقد علق المستشرق الفرنس "كودل" "Caudel" على ذلك بقوله: "وكان اختيار المكان موفقا، بل بلغ من التوفيق في اختياره أن ولاه المغرب ومن خلفهم من الحكام المستقلين أقاموا بها زمنا طويلا، ولم ينتقلوا عنها إلا حينما اضطرتهم ظروف سياسية جديدة إلى ذلك، كما كان موقعها الحربي ملحوظ الأهمية، إذ كان الحاكم الذي يتخذ هذا الموضوع مركزا لأعماله يستطيع أن يرى العدو من بعيد، ويتحرز من الغارات المفاجئة الكثيرة الحدوث عند البربر، وإذا أراد أن يطاردهم إلى هضابهم وجد الطريق مفتوحة أمامه ... ".

وقد عمرت "القيروان" بمختلف الأبنية، وقامت فيها الأسواقن وأمها الناس من جميع الجهات، وعظم قدرها جدا، وقدر لها أن تصبح من أكثر المراكز الإسلامية بركة على الإسلام وأهله، وتحولت بسرعة إلى قاعدة سياسية ودينية وفكرية للإسلام في إفريقية. ولعل دعوة عقبة بن نافع قد استجيبت حينما دعا لهذه المدينة بعد اكتمالها بأن تكون عزا للإسلام وموئلا للعلم والعلماء فقال: "اللهم املأها فقها، وأعمرها بالمطيعين والعابدين، واجعلها عزا لدينك، وذلا على من كفر بك، وأعز بها الإسلام، وامنعها من جبابرة الأرض".

أنفق عقبة في تخطيط المدينة وبنائها أربع سنوات كاملة دون أن ينصرف إلى عمل آخر من أعمال الفتوح، باستثناء بعض السريا التي كان يرسلها إلى المناطق المجاورة. وقد أبدى بعض المؤرخين دهشتهم من أن المسلمين أنفقوا هذا الوقت الطويل مطمئنين من هجوم الروم عليهم، مع أن "قرطاجنة" -عاصمة الروم- لم تكن تبعد عن "القيروان" أكثر من مسيرة ثلاثة أيام. وقد عللوا ذلك بأن الروم كانوا -إذ ذاك في شغل عن "إفريقية" وغيرها من ولاياتهم بمدافعة هجمات المسلمين- في الشرق -على القسطنطينية وبعض جزر البحر المتوسط القريبة منها، خلال السنوات من "49هـ" إلى "54"، فانقطعت الأمداد عن الروم بإفريقية طوال هذه المدة وعدة سنوات بعدها.

ونسجل هنا ملاحظتين على قدر كبير من الأهمية فيما يتعلق بتأسيس "القيروان":

أولاهما: لقد أنشأ عقبة للمسلمين قاعدة يحكم فيها البلاد التي يفتحها وتصدر منها الغزوات. ومعنى هذا أنه -بعمله هذا- قد جعل "إفريقية" ولاية إسلامية جديدة، لأنه ما دام قد أنشأ بها مسجدا ودارا للإمارة فقد أصبحت المنطقة كلها جزءا من الدولة الإسلامية، ولا يجوز بعد ذلك للمسلمين أن يتخلوا عنها، وبالفعل كان من الممكن -قبل ذلك- أن ينسحبوا من "إفريقية" إلى "برقة" أو إلى مصر كما كانوا يفعلون. أما الآن فلا بد لهم أن يثبتوا في هذه الناحية، وإن فقدوها -لسبب ما- فيجب عليهم أن يستعدوها مرة أخرى، لأنها جزء من الديار الإسلامية.

وثانيتهما: وكما أفادت هذه المدينة حركة الفتوح كبرى من الناحية العسكرية فقد أفادت أيضا في العمل على نشر الإسلام والعروبة في المغرب. وهذا هو الغرض الأساسي من الفتوح، وذلك حينما سنحت الفرصة للاتصال السلمي بين البربر والعرب والمقيمين بالمدينة في الفترات التي تتوقف فيها الحروب؛ الأمر الذي ساعد على تقبل بعض البربر للدين الجديد باقتناع دون أي شبهة اضطرار. وقد زاد هذا الأمر أهمية أن الكثيرين من هؤلاء البربر الذين أسلموا أخذوا ينتظمون في جيوش المسلمين، ويسيرون معهم لإتمام فتح البلاد.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى