تشرفتُ بإهدائه لي، نسخة من الطبعة الأولى لكتابه الصادر في شهرنا الحالي من هذا العام، عن (مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر) الكائنة في عاصمة جمهورية مصر العربية، القاهرة.

(أشيائي) ليس مجرد كتاب يحوي مقالات كانت قد نُشرت، في الصحافة الإلكترونية أو الورقية، بل هو ذاكرة مدن في وطن، ما زال يبحث عن عافيته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، هذه الذاكرة التي أحياها الكاتب المبدع والأديب الشفاف، الرقيق في مشاعره والصحفي المخضرم الأستاذ محمد عمر بحاح الذي تعلمنا منه ومن زملائه الأوائل أبجديات العمل الصحفي في مدرسة الصحافة الأولى بالنسبة لنا، جيل السبعينيات، صحيفة 14 أكتوبر.

في كتابه الذي يحمل بين دفتيه (357) صفحة، يشدنا الشغف إلى المضي مع سرده الشيق، في جزيرة (الديس الشرقية) في حضرموت التي شهدت ولادته وتعلمه في طفولته في المعلامة وتأثره بأخيه الكبير محفوظ، في هوسه بقراءة إبداعات كتّاب عرب وأوروبيين ومن ثم نزوحه طفلاً في الثامنة من عمره، مع والده إلى عدن، المدينة الجاذبة للبشر من مختلف أصقاع البسيطة وما كتب له القدر من أحداث فيها.

في (أشيائه) إيقاظ للذاكرة الغنية بالصور والمشهديات وأسماء الأماكن والأشخاص وحذافير المواقف التي كان بطلها أستاذنا بحاح وعدد كبير ممن جايله وزامله ورافقه طوال تلك العقود التي تربو على الست.

يأخذنا الكاتب المبدع إلى أعماق ذاكرته المتقدة والغنية بالمتعة والجمال، ويحدثنا بأسلوبه السردي الفريد عن تفاصيل حياته والذي قال عنه مقدم الكتاب الأخ والصديق العزيز الإعلامي الشهير ناصر محفوظ بحاح، وهو بالمناسبة ابن عمه: "جاءت هذه (الأشياء) بأجزائها ودقائق تفاصيلها الماتعة لتأخذنا مأسورين إلى جلال التاريخ وجماليات السرد وإبداعية القص عن حياة الناس، من الأهلين والأقربين والمعاصرين، أجمعين، لما جاء في تضاعيف هذه (الأشياء)". كما يقول، أيضاً، في مقدمته للكتاب: "والحق أن المائز هنا هو تجدد السردية النوعية للكاتب والانطلاق نحو رحابات أجمل لا تقل، بل تتفوق على ما كان أبدعه في السلسلتين السابقتين، سلسلة (أشياء صغيرة) وسلسلة (أشياء حميمة) قراءة ماتعة، مع هذا الكاتب وهو يتماهى مع الحقيقة العلمية، الفلسفية: (التاريخ لا يُقرأُ ولا يُكتَبُ)".

يسرد لنا الكاتب المبدع في الصفحات الأولى من كتابه في (أشياء صغيرة) وفي السردية الثانية (أشياء حميمة) وفي الثالثة (أشياء لا تُنسى) بأسلوب قصصي أخاذ، تفاصيل حياته، منذ طفولته الأولى، في موطنه الأول (الديس) ثم هجرته إلى عدن مع والده في نهاية خمسينيات القرن المنصرم وسكنه الأول في (بخّار بحاح) في (المعلا دكه) وعشقه لعدن التي سكنته وما زالت تسكنه، حتى وإن بعدت المسافات بينهما.. وما تلى ذلك من حكايات بمرور الزمن وما تخللته من بؤس وشقاء وكد وأفراح وأتراح، إلى أن أضحى ذاك الطفل النحيل والذكي في دراسته، شاباً يافعاً شغف بالقراءة والرسم وتفتق ذهنه بكتابة الشعر ومن ثم الكتابات النثرية التي أنسته الأولى؛ فحلقت به في فضاءات الصحافة والإعلام، ليغدو أحد القيادات الإعلامية المتميزة وأمسكت بناصيتها؛ فحفرت بصمتها عن جدارة في ذاكرة عدن الثقافية والإعلامية.

كنت محظوظة أنني كنت وعدد من زملائي الشباب آنذاك تلاميذ للأستاذ محمد عمر بحاح متعه الله بالصحة والعافية وطول العمر، حيث كان مديراً لتحرير صحيفة 14 أكتوبر، عام 1974م، وأشكره على أننا ما زلنا في ذاكرته التي سجلها في (أشيائه) الرائعة.

(أشيائي) كتاب يسرد السيرة الذاتية دون انفصال عن سيرة الوطن ما قبل وما بعد الاستقلال الوطني. إنه كتاب توثيقي، ينقل القارئ، بسلاسة من منعطف تاريخي إلى آخر ومن مرحلة سياسية إلى أخرى، دون ملل ويصور لنا الأماكن والشخوص ويتركها تتحدث عن ذاتها بتناغم مائز وترابط وشيج، وهذه عبقرية الكتابة السردية التي يمتاز بها القلائل من الكتّاب العرب والعالميين، حتى أنني عندما وصلت للصفحة الأخيرة من (أشيائي) تمنيت ألا تنتهي الأشياء وأن تكون هناك أشياء أخرى.