​اتفاق خفض التصعيد الاقتصادي، الذي أعلن عنه المبعوث الأممي والمتمثل في إلغاء قرارات البنك المركزي بحق بعض البنوك التي رفضت نقل مقراتها إلى عدن، هو مولود غير شرعي للحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا ولكون الحكومة تبنت ذلك المولود غير الشرعي فعليها أن تتحمل تبعات ذلك التبني.

الاتفاق أضاف انتصار جديد لمليشيات الحوثي للأسباب التالية:

1- ذهبت الحكومة إلى ما هو أبعد من المطلوب منها فمذكرة المبعوث الأممي إلى الحكومة طالبهم بتأجيل تنفيذ قرارات البنك إلى أغسطس وما تم الإعلان عنه هو أن الحكومة وقعت على إلغاء قرارات البنك ليس هذا فحسب، بل وافقت على عدم اتخاذ أي قرارات مستقبلًا وبهذا تمكن الحوثي من إسقاط الورقة الاقتصادية من يد الحكومة بمثل ما أسقط اتفاق ستوكهولم الورقة العسكرية من يد الشرعية في الحديدة.

2- تسبب الاتفاق في تصدع جدار الشرعية كون بعض الأطراف المكونة للشرعية لها مواقف مناقضة لموقف الحكومة.

3- أعاد الحديث عن خارطة الطريق التي توقفت على إثر استهداف مليشيات الحوثي لخطوط الملاحة في البحر الأحمر وخليج عدن وأعاد بوصلة الشرعية إلى السير وفقًا لخارطة الطريق التي لم تكن في الأساس طرفًا فيها.

4- إسقاط الاتفاق المرجعيات الثلاث واستبدالها بخارطة الطريق التي جرى الاتفاق عليها بين المملكة ومليشيات الحوثي وبهذا أسقط الاتفاق ورقة سياسية من يد الشرعية ظلت تتغنى بها طوال العشر السنوات الماضية.
5- شرعن الاتفاق تدخل مليشيات الحوثي في شؤون شركة الطيران وفتح لهم وجهات جديدة لرحلات الطيران إلى بعض الدول بعد أن كانت حصريا إلى الأردن.

وفي ظل الضبابية في المشهد السياسي والتعقيدات والتداخلات بين ما هو سياسي وما هو وطني وبين الشأن المحلي والإقليمي والدولي، برز وبشكل واضح وجلي مشروعان مشروع سلالي طائفي في الشمال استطاع أن يولد قناعة لدى المجتمع الدولي والإقليمي بتصفية الملعب في الشمال لمليشيات الحوثي ساعد في ذلك عدم رغبة الأطراف السياسية الشمالية المنضوية في إطار الشرعية بتحرير الشمال وعدم قدرتها على تغيير موازين القوى شمالًا وصار الحوثي هو اللاعب الوحيد في الشمال، ناهيك أن مليشيات الحوثي لا تؤمن بالسلام لأنها لا تجيد إلا لغة القوة ولذا فهي تناور وتراوغ للوصول إلى اتفاق سلام شكلي يمكنها من كسب المزيد من الوقت للاستعداد لاستكمال مشروعها جنوبًا.

المشروع الآخر يتبناه المجلس الانتقالي وهو مشروع استعادة دولة الجنوب إلى حدود ما قبل 22 مايو 1990م.

هذا المشروع يواجه خطر مليشيات الحوثي ومناهضة الأطراف الشمالية المنضوية في إطار الشرعية والتي فشلت شمالا ولذا فهي تتشبث بصحراء ووادي حضرموت وتسعى لإسقاط المحافظات المحررة التي يسيطر عليها الانتقالي بهدف تحسين وضعها التفاوضي، ناهيك أن الملعب في الجنوب مفتوح وهناك لاعبين كثر، إضافة إلى ذلك هناك عملية استقطاب واسعة تقوم بها بعض الأطراف الإقليمية وتبرز بين الحين والآخر مكونات جديدة تحت مسميات قبلية ومناطقية وعسكرية بهدف إرباك المشهد وضعاف الانتقالي. 

وبين هذين المشروعين هناك محافظة المهرة التي تم تفخيخها بالمتناقضات وصارت، ساحة لصراع دولي وإقليمي.

ومن هذا المنطلق لا أجد أفضل من تعبير الزميل فؤاد مسعد، أن ما يجري هو (سلام، بالإنابة) وهذا نتاج طبيعي لحرب الإنابة ويمكن القول بإن القرار لم يعد محلي بل صار دولي وإقليمي ولذا فمصير الشمال ليس بيد الشماليين ومصير الجنوب ليس بيد الجنوبيين وبات تحقيق أي انفراجة في اليمن مرتبطة بتحقيق انفراجة في أوكرانيا وغزة.

إن الحديث عن الأوضاع في اليمن دون الإشارة إلى مشروع الشرق الأوسط الجديد يظل حديث قاصر فهذا المشروع الذي تبنته الولايات المتحدة الأمريكية وتعطل تنفيذه بسبب غرقها في مستنقع العراق وأفغانستان نجد بأن هذا المشروع قائم على ثلاث مراحل وجدت الولايات المتحدة الأمريكية في ثورات الربيع العربي فرصة لتنفيذ مشروعها دون أن تدفع أي تكاليف لتنفيذه.

وتتمثل مراحل مشروع الشرق الأوسط بالتالي:

1- مرحلة الفوضى الخلاقة
هذه المرحلة بدأت مع بداية ثورات الربيع العربي ولا زالت تداعياتها قائمة حتى اليوم ونعيشها على أرض الواقع وتنقسم هذه المرحلة إلى شقين.
الشق الأول، هو الفوضى وهي من نصيب بلدان وشعب الربيع العربي دفعت ثمنها ولازالت تدفع الثمن الشعوب في اليمن وسوريا وليبيا والسودان وبشكل أقل كلفة في مصر وتونس.

والشق الثاني، هو الخلاقة وبمثل ما كانت الفوضى من نصيب دول وشعوب الربيع العربي كانت الخلاقة من نصيب بعض الأنظمة الدولية والإقليمية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، حيث خلقت وعلى وجه الخصوص للولايات المتحدة الامريكية وفرنسا وبريطانيا فرص عقد صفقات بيع أسلحة، كما خلقت للاعبين الدوليين والإقليميين فرص إعادة رسم موازين القوى في إطار كل بلد على حدة وخلقت فرص تأسيس أدوات لكل طرف.

2- مرحلة التفكيك
هذه المرحلة هي الأخرى أخذت اتجاهين:
الاتجاه الأول عسكري، وتمثل في تفكيك المنظومة العسكرية لبلدان الربيع العربي التي انقسمت على نفسها ووجدت الولايات المتحدة وحلفائها فرصة للتخلص من فائض السلاح لدى الجيوش العربية التي اعتمدت في تسليحها على الاتحاد والسوفيتي سابقا وروسيا الاتحادية حاليا وبالتوازي مع ذلك، تم تشكيل تحالف دولي في سوريا وتم تأييد ومباركة تشكيل تحالف عربي في اليمن وتحالف غير معلن في ليبيا.

هذه التحالفات عملت على تشكيل جماعات مسلحة موازية لما تبقى من الوحدات العسكرية لجيوش تلك البلدان وسلحتها وساعدتها على ضرب خصومها ومكنتها من السيطرة على مساحات جغرافية شاسعة.

الاتجاه السياسي تم تفكيك قوى سياسية كانت الى قبل ثورات الربيع العربي حاكمة وتفكيك القوى السياسية التي كانت تعارض تلك الانظمة وظنت بانها  هي البديل وتم الدفع بتشكيل قوى سياسية جديدة ودفعت بها إلى صدارة المشهد واستخدمت بعضها عصا تضعها في عجلة المسار السياسي لإنهاء الصراع.

وفي هذه المرحلة نجحت القوى الدولية والإقليمية في ايجاد توازن الضعف وبذلك صارت ملفات الصراع بيد تلك القوى الدولية والإقليمية التي وجدت أن إدارة الأمات في هذه المرحلة هو الخيار الأمثل لإطالة أمد الصراع بدلًا من حلها.

3- المرحلة الثالثة
هي مرحلة إعادة التركيب
كانت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها تخطط للانفراد في رسم خارطة الشرق الاوسط وإعادة تركيب الأنظمة فيها وتموضع القوى في جغرافيتها بما يضمن مصالحها وأمنها القومي ومهدت للانتقال إلى هذه المرحلة بالاتفاق الإبراهيمي.

إلا أن اندلاع الحرب في أوكرانيا غيّر أولويات الولايات المتحدة الأمريكية وما شهدته هذه الحرب من تداعيات أعاد المشهد إلى زمن الحرب الباردة وبروز الصين كقوة عسكرية واقتصادية وتشكيل تحالف مناهض لحلف الناتو يضم روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية كل هذه المعطيات تشير بأن هناك نظام عالمي جديد بدا يتشكل ووجدت الولايات المتحدة من يزاحمها وأنه لم يعد بمقدورها التفرد بمصير الشعوب.

وإضافة إلى ما أفرزته الحرب في أوكرانيا جاء طوفان الأقصى هو الآخر ليعمل فرز حقيقي في الشرق الأوسط بين قوى التطبيع وقوى الممانعة وفشل المجتمع الدولي في إيقاف حرب غزة وفشل تحالف الازدهار في حماية خطوط الملاحة الدولية من هجمات مليشيات الحوثي لسفن النقل في البحر الأحمر وخليج عدن وترافق ذلك مع تراجع النفوذ الأمريكي والفرنسي في دول غرب أفريقيا النيجر ومالي وبركينا فاسو وحضور روسيا والصين وبقوة في القارة الأفريقية وكل هذه المتغيرات عكست نفسها على بؤر الصراع وجعلت الكثير من البلدان تعيد النظر في تحالفاتها الدولية وفقًا لمصالحها وليس وفقًا لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية.

تضارب مصالح الدول العظمى وصراع الإرادات وصعف المجتمع الدولي في فرض السلام العالمي وازدواج المعايير يجعل فرص السلام بعيد المنال على الأقل على المدى المنظور وأن الرهان على الموقف الإقليمي والأممي لوقف الحرب في اليمن رهان خاسر وهذا الأمر ينطبق على سوريا وليبيا والسودان وسيستمر الصراع سنوات قادمة ولا يعرف أحد مالاتها.