في زمنٍ اختلط فيه الحابل بالنابل، واشتبهت فيه المليشيات بالجيش، والأمن بالعصابات، والوطن بأحلامٍ ممزقة، نقف أمام واقعٍ مؤلم لا يُغتفر. تعدّدت الرايات، واختلفت الولاءات، وانقسم الوطن إلى جزرٍ صغيرة تتحكم بها أجندات خارجية وداخلية، بينما يُترك الشعب وحده في دوامة هذا العبث.

إن الحديث عن جيشٍ وطني وأمنٍ موحّد أصبح أشبه بالحلم البعيد، إذ نشهد اليوم جيوشًا متعددة تتبع قادة مختلفين، ومؤسسات أمنية مفككة تعمل تحت رايات الولاء لأشخاص وجهات بدلًا من الولاء للوطن. تحول الجيش من مؤسسة وطنية جامعة إلى مليشيات متناثرة، يحمل بعضها شعار "الشرعية"، لكنه يتصرف بعقلية المليشيات.
  • رفع الرايات المتعددة إعلان صريح بانهيار الدولة
في علم العسكرية والسيادة الوطنية تُعدّ الراية رمزًا مقدسًا للوحدة والولاء للدولة. لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تُرفع أكثر من راية في بلد واحد، لأن ذلك ليس فقط علامة على الانقسام، بل هو أيضًا إعلان صريح بانهيار مفهوم الدولة.

اليوم نرى أكثر من راية ترفرف في سماء وطننا، وكل راية تحمل اسمًا أو شعارًا دخيلًا على ثقافتنا العسكرية والأمنية. بدلًا من أن تكون المؤسسات العسكرية والأمنية حصنًا للوطن، أصبحت ساحاتٍ لصراع الولاءات، وكل طرف يغني على ليلاه متناسيًا أن هذه الفوضى هي الخنجر الذي يغرس في خاصرة الوطن.
  • الأسماء الدخيلة اغتراب عن الهوية
ما يؤلم أكثر من تعدد الرايات هو دخول أسماء وشعارات لا تمت بصلة لتراثنا العسكري والأمني. هذه المسميات الغريبة تعكس حالة الاغتراب والانفصال عن الهوية الوطنية، وكأننا أصبحنا في وطنٍ بلا ذاكرة. أين تلك الأسماء التي كانت تُلهم الأجيال؟ أين الألقاب والرموز التي كانت تعبر عن السيادة والعزة والكرامة؟
  • المسؤولية قيادة ضائعة وولاءات مشتتة
من يتحمل هذا العبث؟ الإجابة واضحة، ولكنها مريرة: القيادة السياسية والعسكرية هي المسؤولة الأولى عن هذا الوضع. وزارة الدفاع ووزارة الداخلية اللتان يُفترض أن تكونا عمودَي الأمن والاستقرار، أصبحتا منصتين للتجاذبات والمحاصصة. لم نعد نرى وزارات سيادية، بل منصات تابعة لتوجهات إقليمية ومحلية تخدم مصالحها الخاصة.

كيف لنا أن نلوم الحوثي على ممارساته المليشياوية، ونحن نقع في نفس المستنقع؟ الشرعية، التي يُفترض أن تكون نموذجًا لبناء دولة القانون، غرقت في مستنقع المحسوبيات والتبعية. إذا أردنا أن نكون قدوةً وننتقد الآخرين، فعلينا أولًا أن ننظف بيتنا الداخلي.
  • المحصلة انهيار الروح العسكرية
الجيش الذي تُرفع فيه رايات متعددة ليس جيشًا، بل مجرد مليشيات متناثرة لا تخضع لقيادة واحدة. المؤسسة الأمنية التي تستبدل هويتها بشعارات دخيلة تفقد قدرتها على أداء وظيفتها الأساسية. هذا الوضع لا يقود إلا إلى نتيجة واحدة: انهيار الروح العسكرية وضياع الأمن القومي.
  • رسالة إلى القيادة: كونوا على قدر المسؤولية
لا يمكن للوطن أن ينهض في ظل هذا التشرذم. على القيادة أن تدرك أن بناء جيش وطني موحد وأمن حقيقي يتطلب رؤية وطنية شاملة بعيدًا عن الحسابات الضيقة. يجب أن تتوقف لعبة الولاءات، وأن يُعاد بناء المؤسسات العسكرية والأمنية على أسس مهنية وطنية، تكون فيها الكفاءة والولاء للوطن هما المعيار الوحيد.
  • الشعب لن يغفر
إذا استمر هذا العبث، فإن الشعب لن يغفر، والتاريخ لن يرحم. لقد تعبنا من الخطابات والشعارات، ونريد أفعالًا حقيقية تعيد للوطن هيبته. أبدأوا بأنفسكم قبل أن توجهوا أصابع الاتهام للآخرين. فالقدوة تبدأ من القمة، ولا يمكن بناء وطنٍ متماسك بمؤسسات منهارة وقيادات غارقة في الصراعات.
  • رسالة أخيرة
على كل من يحمل شرف القيادة العسكرية أو الأمنية أن يدرك أن الوطن لا يحتمل المزيد من العبث. يجب أن تُعاد الراية الواحدة لتكون رمزًا جامعًا، وأن تُمحى تلك المسميات والولاءات التي فرّقت صفوفنا. فبدون جيش واحد وأمن واحد وراية واحدة، لن يكون لنا وطن نحميه.

إذا كنتم حقًا تؤمنون بالوطن، فأعيدوا إليه وحدته، وأعيدوا إليه علمه الذي كان وسيظل رمزًا للسيادة والكرامة.