> جلبير الأشقر:
إن ردّ فعلنا الطبيعي إزاء أي اعتداء أمريكي على أي بلد من بلدان منطقتنا والجنوب العالمي هو إدانة هذا العدوان، وهو الموقف السليم.
وليست الاعتداءات الأمريكية على اليمن استثناءً، لا سيما أنها تترافق بقطع المساعدات الإنسانية عن قسم كبير من هذا البلد الفقير والمنكوب. هذا ينسجم تماماً مع النهج الإمبريالي الذي تتبعه الولايات المتحدة في منطقتنا على الأخص، وقد تصاعد بقوة منذ احتضار الاتحاد السوفييتي، ومن ثم انهياره.
فرأينا مذّاك حرباً أولى على العراق، تلتها حربٌ منخفضة الحدة رافقت خنق البلد من خلال الحظر المفروض عليه، وكان حظراً مجرماً بحق السكان المدنيين، حتى جاء وقت الاحتلال وما تبعه من عواقب وخيمة لا يزال العراق يرزح تحت وطأتها. هذا وناهيك من عمليات القصف الأمريكي اللاحقة، حيث باتت العراق واليمن وسوريا، وكأنها ميدان قنص للقوات المسلّحة الأمريكية تقصف من تشاء، متى تشاء، وكيفما تشاء بطائراتها وصواريخها ومسيّراتها.
يندرج كل ما سبق وصفه في طبيعة الأمور، إذ إننا نتحدّث عن سلوك دولة إمبريالية هي أعظم قوة عسكرية في العالم. ولهذا السبب بالذات، ينبغي على الأنظمة المناهضة لهذه القوة العظمى أن تتفادى ما يعطيها ذريعة للهجوم العسكري عليها، حتى عندما تكون خاضعة لشتى الإساءات من قِبَلها.
فعلى سبيل المثال، تخضع كوبا لحظر مجرم منذ عشرات السنين، لكن حكمها أذكى من أن يقوم بممارسات من شأنها أن تعطي واشنطن ذريعة لشنّ اعتداء عسكري على الجزيرة من شأنه أن يفاقم أزمتها الاقتصادية إلى حد خطير. تصوّروا مثلاً لو قرّرت كوبا قصف البواخر الأمريكية في محيطها البحري ردّاً على خنقها من قِبَل واشنطن. لكان هذا السلوك مشروعاً تماماً من وجهة نظر الحق، لكنّه أرعن تماماً من وجهة النظر العملية نظراً لما سوف يجلبه بالتأكيد على الجزيرة من ويلات.
والحال، حيث أن أمريكا لم تتضرر من أعمال الحوثيين بما يجدر ذكره، وإسرائيل تضررت قليلاً، كان المتضرَّر الرئيسي هو مصر التي انخفض مدخولها من الملاحة عبر قناة السويس بنسبة 60 في المئة في عام 2024 مقارنة بالعام السابق، بخسارة بلغت 7 مليارات دولار، وهي خسارة كبرى لبلد كمصر يعاني من أزمة اقتصادية متفاقمة. والحقيقة أن نظرة قسم كبير من شعب اليمن إلى أعمال الحوثيين مختلفة تماماً عن نظرة الذين يصفّقون لأفعالهم من الخارج وكأنها بطولات. ففي الشطر الآخر من اليمن من يرون في سلوك الحوثيين مزايدة سياسية يوظّفها حكم صنعاء في صراعه الطائفي والسياسي معهم، كما يوظّفها في دغدغة مشاعر المواطنين في الشمال للتغطية على إخفاقه الكبير في المجال الاقتصادي.
والحقيقة أن حكم الحوثيين، حكم «أنصار الله» حسب التسمية الرسمية، غارق في الظلامية والرجعية الاجتماعية والسياسية، أقرب ما هو إلى حكم الطالبان في أفغانستان، وقد نتج عن انقلاب رجعي على التسوية المشروعة ديمقراطياً التي نجمت عن الانتفاضة الشعبية في عام 2011، وذلك بالتحالف لوهلة مع الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح الذي لا يجمعه بالحوثيين سوى الانتماء الطائفي. وقد انتهز الحكم الحوثي جوّ التعبئة الذي خلقه من خلال ممارساته في البحر الأحمر كي يشدد قبضته القمعية على المجتمع، حتى انقض على منظمات الإغاثة على غرار ما فعله الطالبان، فاعتقل أكثر من مئة من أعضائها في وقت تحتاج اليمن أمسّ الحاجة إلى المعونة والإغاثة الدوليتين.
هذا ويبدو أن تصعيد الضربات العسكرية الأمريكية على مناطق الحوثيين جاء بحثّ من حكام الشطر الآخر من اليمن. ذلك أن واشنطن كانت قد اكتفت حتى الآن بضربات محدودة إذ لم تشكل ممارسات الحوثيين إزعاجاً كبيراً لها، بل جرى إحباط كافة هجومات الحوثيين على البواخر الحربية الأمريكية بالصواريخ البالستية والمسيرات لتدنّي مستواها التكنولوجي مقارنة بما لدى أمريكا (وهذا من حسن الحظ، فلو أصاب الحوثيون إحدى هذه البواخر وقتلوا بعض بحّارتها، لانهال على مناطقهم ما هو أخطر بكثير مما شهدناه حتى الآن).
وقد نقلت صحيفة «ذي غارديان» البريطانية قبل شهرين عن عيدروس الزبيدي، نائب رئيس الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، ورئيس المجلس الانتقالي الجنوبي في الوقت نفسه، نقلت عنه دعوته الرئيس الأمريكي الجديد ليصعّد الهجوم على الحوثيين، منتقداً الإدارة السابقة لقلة حزمها في مواجهتهم. كما دعا الزبيدي إلى التنسيق بين الضربات الأمريكية وبين هجوم القوات الحكومية اليمنية على الأرض، وهو ما قد نشهده في المستقبل القريب. ولو تم ذلك تكون ممارسات الحوثيين قد فسحت المجال أمام تجدد الحرب اليمنية بتدخل عسكري أمريكي مباشر هذه المرة، بما ينسجم مع عدوانية إدارة ترامب ضد إيران، راعية الحوثيين، التي تفوق بكثير عدوانية إدارة بايدن.
كاتب وأكاديمي من لبنان - القدس العربي