الجمعة, 22 يوليو 2022
4,076
> عجزتُ عن كتابة عنوان لمقالتي التي وُلِدتْ فكرتها يوم رحيله المفاجئ والمفجع، واشتد مخاض الفكرة في رأسي، عندما علمت بغياب القيادات السياسية والحزبية والاجتماعية ولا حتى ممثلين عن المجلس الرئاسي أو الحكومة أو السلطة المحلية في مكتب المحافظ، عن المشاركة في تشييعه إلى قبره.
جنازة رجل قدَّم حياته فداءً للجنوب واستقلاله وكان مخطط ومنفذ للكثير من العمليات الفدائية الخطيرة ضد الإنجليز في عدن، أهكذا تُشيَّع، بصمت؟!
إنني أتحدث يا سادة عن المناضل الوطني، المثقف العدني، أبوبكر علي أحمد شفيق، أتحدث عن أول محافظ لعدن عقب الإعلان عن الاستقلال الوطني للجنوب العربي، أتحدث عن رجل لم تشغله ترهات الحياة عن استماتته من أجل تحرير وطنه واستقلاله، كان حبه لوطنه يتقدم حبه لأسرته، حمل روحه على كفه، يومًا ولم تمضِ أيام كثيرة على زواجه، فكانت عملية فدائية ضد الإنجليز ومواليهم، هزَّت عدن حينها.
لقد طاله الجحود في حياته وعانى مرارة العيش، بعد تهجيره قسرًا عام 1972م، من مدينته التي افتداها بحياته ومسقط رأسه(عدن) إلى مدينة (تعز) مع زوجته وأطفاله الستة، دون مورد رزق، ذاق شظف العيش وكان ذلك مصير المئات من الأسر والعوائل العدنية التي تم تهجيرها، آنذاك والبعض من أفرادها كان من النساء-فقط- وتصوروا كيف كانت حالهن؟
قصص دوّنها التاريخ بحذافيرها وسيتم نشرها، حتمًا، عاجلًا أو آجلًا، لأنها سُنة الحياة والتاريخ خير شاهد.
عندما كنت طفلة في السابعة من عمري، سمعت اسمه يتردد على مسامعي، بحكم القرابة التي تجمع بين أمي وزوجته، أم أولاده التي كانت بمثابة أختها.
عرفت عنه أنه كان فدائيًا جسورًا ومناضلًا شجاعًا، لا يهاب عساكر الإنجليز ولا أسلحتهم ولا دباباتهم، كنت طفلة ولم أعِ ما يجري حولي ولكنني كنت أشعر بالألم، حين أرى دموع أم جمال (زوجته) تجري على خديها وهي تتحدث عن اعتقال زوجها وتعذيبه في (رأس مربط) كنت أسمعها تتحدث عن تفجير قنابل وعن المظاهرات وكيف تم تفتيش بيتهم والعبث بمحتوياته، عرفت عن حكايات المناضل أبوبكر شفيق، لأول مرة من لسان زوجته المحبة له، التي لم تتبرم من نشاطه الفدائي وتغيبه عن البيت لأيام، بل كانت سندًا له وكانت دائمًا تزوره في المعتقل، تحمل له ما لذَّ من الطعام، ليقوى ويستعيد صحته التي تدهورت نتيجة التعذيب بالكهرباء على يد خبراء التعذيب الإنجليز وهي الآثار التي بقيت ظاهرة على يديه وقدميه، طوال حياته.
كانت أخته الأصغر منه، رفيقة نضاله، ضد الاحتلال البريطاني التي دفعت حياتها، ثمنًا لذلك النضال بعد إصابتها في إحدى المظاهرات الجماهيرية التي كانت في مقدمتها، لتلقى ربها، بعد سنوات قليلة، راضية مرضية، تاركة ابنتها الوحيدة التي شاء الخالق أن تكون شبيهة أمها تمامًا، أنها المخرجة التليفزيونية المعروفة، إيناس بحصو، ابنة المخرج المسرحي الكبير، فيصل بحصو.
رجل بحجم المناضل القائد والفدائي المعلم والمخطط والمنفِّذ للكثير من العمليات الفدائية في عدن، أبوبكر شفيق، عاش نزيهًا، طوال حياته، لم يمتلك فيلا ولا قصرًا ولا حتى منزلًا صغيرًا ولا متجرًا أو محلًا تجاريًا صغيرًا، لم يمد يده مستجديًا وظيفة أو معاشًا، على الرغم من أحقيته في ذلك، فقد تم إقالته من منصبه كمحافظ لعدن، ثم من وظيفته القيادية في وزارة الخارجية، بعد الإطاحة بسلطة أول رئيس للجمهورية الفتية بعد الاستقلال، قحطان الشعبي ورفاقه، في 22 يونيو 1969م وتم تهجيره قسرًا إلى خارج البلاد، مع عائلته ولأنه لم يطق العيش بعيدًا عن معشوقته عدن، عاد إليها في مستهل التسعينيات وتكريمًا لدوره النضالي قدمت له السلطة سكنًا في (حي الرياض) في مديرية المعلا، كغيره من الذين وقع عليهم غدر الزمن وتم تعيينه مستشارًا في وزارة الأوقاف، براتب متواضع، إلا أن السنوات العجاف كانت قد فعلت فعلها بجسد وروح الرجل.
وكعادته انكفأ على ذاته صامتًا فزادت صحته في التدهور ووهن جسده، حتى لقي ربه، طاهرًا، نزيهًا، نظيفًا، شريفًا وعظيمًا.
لا نقول غير "إنَّا لله وإنا إليه راجعون" وأذكّر فقط بأننا جميعًا راحلون عن دنيانا الفانية، لكن كل منا سيترك وراءه ما اجترحه في هذه الدنيا إن كان خيرًا أو شرًا.
فالتاريخ لا يكذب وهو الشاهد الوحيد والمدوّن لكل أحداثه.