الخميس, 18 أبريل 2024
1,095
تُفهم"المعايير المزدوجة" على أنها التعسف في توجيه اتهامات بانتهاك القواعد والمبادئ والاتفاقيات والالتزامات الدولية و انتهاك القيم الإنسانية العالمية وانتهاك حقوق الإنسان والانحراف عن القانون الدولي، فيما يتعلق ببعض الأمور، "المعايير المزدوجة" هو مصطلح حاسم للدلالة على الأساليب التمييزية العملية والواسعة النطاق، ولكنها مرفوضة رسميًا.
سياسة المعايير المزدوجة هي تفسير وتقييم مختلفان لنفس الأحداث أو العمليات أو الحقائق القانونية أو ما شابه ذلك اعتمادًا على من هم الأشخاص الخاضعون لها وكيفية تعامل الأشخاص الذين يقومون بالتقييم، علاوة على ذلك وبنفس المحتوى الأساسي تحظى تصرفات البعض بالدعم والتبرير، بينما تتم إدانة ومعاقبة البعض الآخر، كما هو الحال في التعامل المزدوج مع الصراع في الشرق الأوسط بين الإسرائيليين والفلسطينيين وحرب روسيا وأوكرانيا، حيث تنطبق بعض المتطلبات والقواعد القانونية على طرف وتختلف تمامًا عن الطرف الآخر.
لقد كانت المعايير المزدوجة جزءًا من العلاقات الدولية منذ مئات السنين، ومن الصعب أن نتوقع تغير الوضع في المستقبل المنظور، وحتى العلاقات بين القوى في عهد نظام فيينا، رغم أنها كانت مبنية على مبدأ الاعتراف المتبادل بالشرعية، إلا أنها لم تتمكن من التخلص تمامًا من التدخل في الشؤون الداخلية لبعضها البعض، حيث يتحدث الصحفيون والسياسيون الأوروبيون والامريكيون باستمرار عن الأوضاع في العالم، بناءً على أفكارهم وعلى النفعية السياسية والاقتصادية.
في عام 1956، قال هنري كيسنجر في تحليله لأسباب الاستقرار النسبي لنظام فيينا ما يلي: بأنه "عندما تنظر إحدى الدول إلى الأفكار الداخلية للعدالة الموجودة في دولة أخرى، باعتبارها تهديدًا فلا يوجد أساس للحوار الدبلوماسي". ولنتذكر أن هذه الفكرة هي التي شكلت في أوائل السبعينيات الأساس الفكري لسياسة التقارب مع الصين الشيوعية، القائمة على الاعتراف الجزئي بشرعية هذا النظام، وهكذا أصبحت عاملًا مهمًا في إضعاف الاتحاد السوفييتي وهزيمته الاستراتيجية اللاحقة، والآن نرى أن الاهتمام المتبادل بالوضع الداخلي هو القاعدة في علاقات تلك الدول التي ليست حليفة رسمية، مثل الولايات المتحدة والدول الأوروبية، أو مثل روسيا والصين.
في السياسة الدولية الحديثة من المعتاد في كثير من الأحيان توجيه الاتهامات المتبادلة باستخدام المعايير المزدوجة، إلا أن هذه الطريقة في حد ذاتها غير منطقية إلى حد ما، فقد ولت أيام اللورد بالمرستون منذ فترة طويلة حين قال هذا السياسي في منتصف القرن التاسع عشر إن (ليس لدى بريطانيا أعداء دائمون ولا أصدقاء دائمون، بل مصالح ثابتة فقط) (1)، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وظهور عالم أحادي القطب حاولت الولايات المتحدة في سياستها الدولية على مدى ربع القرن الماضي إحياء صيغة هنري جون بالمرستون، لكن ذلك لم يتسبب إلا في تفاقم الوضع الدولي وحالة جديدة نوعيًا من المواجهة بين الحضارات.
من الضروري أن نفهم أن السياسة هي أداة وليست النتيجة النهائية للبحث عن الحقيقة، وتتمثل مسؤوليتها الوظيفية في البحث عن التوافق وبناء علاقات متكافئة بين الجهات الفاعلة في مجال العلاقات الدولية وفي العمليات المحلية، فالسياسة الحقيقية دائمًا متعددة المتجهات، وكل دولة تعتبر معاييرها السياسية الخاصة بالسياسة الداخلية والخارجية هي الحقيقة المطلقة، وتعتبر مقاربات الطرف الآخر معادية واستفزازية.
يمكن رؤية استخدام المعايير المزدوجة من خلال العديد من الأحداث في تاريخ العالم مثل أن دخول القوات السوفيتية إلى بولندا في سبتمبر 1939 هو حقيقة موضوعية حدثت بالفعل وقام العلم التاريخي المحلي السوفيتي آنذاك ذو التوجه الوطني بتفسير دخول القوات السوفيتية إلى بولندا باعتباره حملة تحرير للجيش الأحمر، واستعادة العدالة التاريخية وعودة غرب أوكرانيا وغرب بيلاروسيا كأراضي أسلاف الإمبراطورية الروسية (2، ص. 7)، لكن التقليد التاريخي البولندي الحديث، مسترشدًا بتقييمات المؤرخين الغربيين الليبراليين، يقيم هذا الحدث اليوم باعتباره احتلالًا وتقسيمًا آخر لبولندا قامت به دولتان شموليتان متواطئتان: الاتحاد السوفييتي والرايخ الثالث ( 3)، وبعد هذا الحدث لعبت بولندا في كثير من الأحيان دور "دولة الأشباح"، وحتى ضرورة وجودها تم الاعتراف بها أو إنكارها من قبل جيرانها الأقوياء ألمانيا وروسيا، اعتمادًا على الوضع السياسي ومن الواضح أن هذا هو المصير الجيوسياسي المحزن لجميع الدول الصغيرة.
إن كافة آليات سياسة المعايير المزدوجة تقوم على علاقة متعددة العوامل بين السياسة والأخلاق، وذلك عندما تبدأ الدول من أجل الاعتبارات الاستراتيجية والعملياتية في ممارساتها على الساحة الدولية في اتباع مفهوم "المعايير المزدوجة"، وتقسيم المجتمع العالمي إلى "نحن" و"غرباء" (4) وباستخدام مكثف للخداع المباشر والاستخفاف وتضليل المجتمع الدولي، كما حدث مع ذريعة العدوان العسكري على العراق، حيث لم يتم تأكيد واثبات وجود أي شكل من أشكال أسلحة الدمار الشامل، التي تم الإعلان عنها قبل هجوم الحلفاء على العراق .
على ما يبدو ولأول مرة كانت العملية السياسية الأكثر نجاحًا باستخدام المعايير المزدوجة في بلد اشتراكي، والتي أدت إلى انهيار النظام الحاكم هي الاستفزازات التي جرت في رومانيا في نهاية ديسمبر 1989، فقبل ذلك تم نشر مواد سلبية عن الدكتاتور الروماني لوسائل الإعلام الغربية من خلال "الطابور الخامس" وفي نفس الوقت تم نشر صور لجثث في الشوارع وبهذه الطريقة تمت معالجة الرأي العام العالمي ونجحت على الرغم من أن تشاوشيسكو نفسه لم يكن قديسا على الإطلاق، إلا أنه لم يرتكب كل تلك الجرائم الفظيعة التي اتهم بها وادت الى اعدامه ، وبشكل عام عُهد بعملية الإطاحة بتشاوشيسكو إلى رئيس قسم أوروبا الشرقية في وكالة المخابرات المركزية، ميلتون بوردن، الذي لم ينكر بعد 15 عامًا حقيقة أن العمل للقضاء على نظام تشاوشيسكو تمت الموافقة عليه من قبل حكومة الولايات المتحدة (5، ص 352).
لقد كشف العدوان الاسرائيلي الأخير على غزة والأزمة الأوكرانية عن سياسة المعايير المزدوجة من قبل الدول العظمى وعن حجم الفجوة في التزام الدول بقرارات الأمم المتحدة من حيث تبنيها وتنفيذها، كما تذكرنا المشكلتان بمدى حاجة المجتمع الدولي إلى القانون الدولي الذي ينطبق على جميع البلدان بشكل متساوٍ، والتخلي عن سياسة المعايير المزدوجة واتخاذ الخطوات اللازمة لضمان التنفيذ الفوري للقرارات الدولية المتعلقة بفلسطين والدول الأخرى التي يمكن أن تنهي معاناتها، فعلى مدى 75 عامًا مضت لم يطبق أي قرار دولي على قوات الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين حتى في ظل التصعيد الاسرائيلي الاخير ضد غزة واتهام مقررة الامم المتحدة لحقوق الانسان لإسرائيل بارتكاب ابادة جماعية، التي اعتبرتها المقررة الاممية في تقريرها 3 أنواع من أعمال الإبادة: "قتل أفراد في المجموعة، إلحاق ضرر خطير بالسلامة الجسدية أو العقلية لأفراد المجموعة، وإخضاع المجموعة في شكل متعمد إلى ظروف معيشية من شأنها أن تؤدي إلى تدمير جسدي كامل أو جزئي"، لكن القوى الكبرى التي تسيطر على الأمم المتحدة ومؤسساتها تتبع نهجًا انتقائيًا شديدًا في هذا الأمر.
منذ تأسيس الأمم المتحدة بدأت عملية ترسيخ قواعد القانون الدولي، بما في ذلك مبدأ احترام سيادة الدول وحظر استخدام الأسلحة وتقديم المسؤولين عن ارتكاب جرائم الحرب والابادة الجماعية والعدوان إلى العدالة في أي منطقة من العالم، كما يعتبر مبدأ المساواة من أهم مبادئ القانون الدولي وكذلك حظر استخدام القوة في العلاقات الدولية وحق الشعوب في تقرير مصيرها واحترام حقوق الإنسان دون تمييز على أساس الجنس أو الدين أو العرق أو اللغة.
أصدرت محكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تحت مزاعم جرائم حرب، هي ذاتها المحكمة الآن لا تحرك ساكنًا تجاه المجازر التي ترتكب في غزة من قبل نتنياهو وجيشه على مرأى ومسمع من العالم، لذلك علينا أن نعترف بأن سياسة المعايير المزدوجة أصبحت اليوم حقيقة من حقائق المواجهة الحضارية، وفيها تلعب الحرب المعلوماتية والأيديولوجية الدور الأكبر في المواجهة، أما القاسم المشترك في تصعيد سياسة المعايير المزدوجة الحالية فهو إعادة صياغة بنية المجتمع الدولي في شكل عالم متعدد الأقطاب، وإذا استمر المجتمع الدولي في اتباع سياسته الخاصة القائمة على المعايير المزدوجة فيما يتعلق بالصراعات كما هو الحال الآن بين إسرائيل وفلسطين وروسيا وأوكرانيا، فإن النتيجة الحتمية ستكون فقدان الثقة في المؤسسات العالمية وخيبة الأمل المتزايدة في العالم من فعالية القانون الدولي.
المراجع:
1 ) Vinogradov V.N. Lord Palmerston in European diplomacy // New and recent history, 2006. No. 5. P.182-209 .
2 ) Meltyukhov M.I. Soviet-Polish wars. Military-political confrontation 1918-1939. - M., 2001.
3 ) Halik Kochanski. The Eagle Unbowed: Poland and the Poles in the Second World War. — Allen Lane, Harvard University Press, 2012- 734 p.
4 ) Cooper R. The New Liberal Imperialism // The Observerˏ 7 April 2002.
5 ) Kunze Thomas. Nicolae Ceauşescu. Ch. Links Verlag, 2009. 465 S.
. 6 ) Volkovsky N. L. History of information wars. Part I. St. Petersburg, 2003
. 7 ) Trebin M.P. Wars of the XXI century. M.: AST; Mn.: Harvest, 2005