أهمية مراكز الدراسات والبحوث

> د. فضل الربيعي

> تعد مراكز الدراسات والبحوث العلمية أحد المنجزات الحضارية التي يشهدها عالمنا المعاصر، والتي جاءت بها الثورة العلمية وما أحدثته من تحولات عميقة في التاريخ الإنساني. لذا فإن مراكز الدراسات والبحوث هي عملية هادفة لتأكيد ذاكرة المجتمعات الحضارية، وهي المختبرات العلمية لمعالجة قضايا المجتمعات، إذ تعتبر منابع للإنتاج المعرفي والثقافي تعكس اهتمام المجتمعات بالعلم والمعرفة واستشراق آفاق المستقبل وفق المنظور العلمي في أبعاده المختلفة، والهادفة إلى تأسيس الأطر والأوعية التي تحفظ المنجزات العلمية والمعرفية التي تأتي بها ثمار العلم، والساعية إلى خدمة القضايا الإنسانية. كما تهدف إلى تعميق الوعي الاجتماعي بها باعتبارها مدخلاً لتنمية الثقافة وتأصيل المعرفة العلمية الموضوعية القائمة على أساس مبدأي الحيادية والموضوعية.

لقد شهد العالم تطوراً هائلاً في مختلف الميادين والحقول، انبثق عنه تزايد الاهتمام المعرفي، وتبادل المعلومة والمعرفة والخبرة العلمية ضمن إطار مؤسسي دائم، هو ما نطلق عليه اليوم «مراكز البحوث والدراسات والمعاهد العلمية»، فغدت المجتمعات والحضارات تتبادل معارفها، وتحافظ على مميزاتها وخصائصها، انطلاقاًَ من الفعاليات المتمثلة بالندوات والمؤتمرات العلمية وورش العمل البحثية المنتشرة في كل المجتمعات، حيث أصبحت مراكز البحوث والدراسات وسيلة ناجعة لعرض المنجز الفكري والعلمي والحضاري لهذه المجتمعات، إلا أن أخطر ظاهرة تواجه العمل المؤسسي البحثي هذا هي نزعة الهيمنة المعرفية، التي تحول بعض أنشطة المراكز أو المعاهد البحثية إلى أداة هدامة للمعارف الأخرى. حيث نجد أن بعض هذه المعاهد ومراكز الدراسات تسعى من خلال نشاطها نحو توظيف تراث مجتمع أو فكره لخط أيديولوجي وسياسي محدد، حيث يتم إخضاع المعرفة والمعلومة بشكل متعسف لذلك الخط الأيديولوجي أو التوجه السياسي.. وامتداد أيديولوجي وسياسي لنظام أو حزب سياسي معين يسعى نحو توسيع رقعته الجماهيرية، واستيعاب النخبة الثقافية والفكرية في إطار هذه المراكز أو تلك، الأمر الذي يؤدي بهذه المراكز البحثية إلى أن تصبح جزءاً من الترسانة الفكرية والأيديولوجية التي تسعى من خلال نشاطها وأعمالها المختلفة، إلى توظيفها بما ينسجم ونزعة الهيمنة ومنطق المركزية الثقافية.

إن أهمية هذه المراكز تنبع من الموضوعية والحيادية، والاهتمام العلمي والبحثي والأكاديمي الجاد والهادف الوصول إلى الحقائق دون توظيفها الأيديولوجي أو السياسي. إذ أن منهجية التحيز اللا موضوعية التي قد تتبعها بعض المراكز في نشاطها البحثي يفقدها المصداقية العلمية والقيمة الإرشادية والتعليمية، التي تتجلى في إعطاء الرؤية وبيان الحقائق المتحررة من العناصر الدوغمائية والنظرة الواحدية.

وعليه تكمن أهمية هذه المراكز أنها تعد من التقاليد الحضارية المتقدمة المعنية بالاهتمام بالحقل المعرفي والعلمي، والمنطلقة من اهتمامها بتركيز وتكثيف الجهود البحثية والفكرية، وجعلها في متناول الباحثين والمهتمين للاستفادة منها في حياتهم اليومية، وتنويرهم بقضايا مجتمعاتهم وتقديم المعرفة الاستراتيجية التي تساعد على تطوير الحياة المعرفية والفكرية والعلمية في الوسط الاجتماعي عن طريق أنشطتها الثقافية والعلمية ومنابرها الإعلامية المختلفة. حيث تقوم هذه المراكز برفد المجتمع بالمعلومة الجديدة الموثوقة، والتحليل العلمي الرصين، وتبلور آفاق المستقبل، كما تقدم الدعم لصناع القرار من خلال ما تبديه من مشورة قائمة على أساس البحث الرصين تبلور لهم الخيارات وتوضح السياسات، وتفصل لهم القضايا بشكل علمي ودقيق.

لذلك نجد أن الكثير من الحكومات والأجهزة التنفيذية في المؤسسات العامة المحلية والأقليمية والدولية، تعتمد على دراسات وأبحاث وخبرات مراكز البحوث والدراسات، وتعتبرها هيئة استشارية لتلك الجهة أو ذلك الجهاز التنفيذي الحكومي أو الأهلي. وعليه نجد الدول المتقدمة قد اعتمدت على نتائج ما تقدمه لها مراكز ومعاهد الأبحاث من نتائج توصلت إليها في دراستها للظواهر الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية أو الاقتصادية التي تواجهها، لذا نرى أهمية العمل على تطوير ودعم مراكز الأبحاث الوليدة في بلادنا، والقيام بتأسيس مراكز أبحاث متخصصة في أحضان الجامعات اليمنية التي وصل عددها إلى 15 جامعة، منها (7) جامعات حكومية و(8) جامعات أهلية، وهي أعداد كبيرة، إلاّ أن مراكز الأبحاث والدراسات في هذه المؤسسات العلمية ليست بمستوى الطموح.

وعليه نرى من الأهمية بمكان أن تأخذ الدولة على عاتقها القيام بمراجعة ذلك، وبلورة خطة وطنية جديدة تأخذ على عاتقها تطوير هذا الحقل البحثي الهام، الذي يشكل أحد الوظائف الرئيسية للجامعة، فضلاً عن تولي الدولة تشجيع القطاع الخاص على تأسيس مراكز للأبحاث والدراسات التي تعنى بتطوير المستوى المعرفي في المجالات التي يتحرك فيها هذا القطاع.

لقد أصبحت مراكز الأبحاث والدراسات هذه من القضايا الوطنية الهامة والحيوية، التي تمثل جوهر مؤسسات المجتمع المدني في عالمنا المعاصر، حيث تتطلب من الجميع القيام بجهد نوعي تجاهها في سبيل تأسيس بنية تحتية طنية لهذه المراكز والمعاهد البحثية، ومدها بالمساعدات الممكنة والتفهم لأهمية دورها في بحث وتفسير العديد من المشكلات التي تواجه المجتمع، وتسليط الأضواء على القضايا الرئيسية التي تتساءل عن البواعث والعوامل الواقعية للنهوض بالمجتمع ومعرفة عناصره المنشطة للتوجه المعرفي والعلمي باتجاه تحريك المجتمع، ورفع إنتاجيته، والتصدي للمعضلات والمعوقات التي تقف أمام ذلك.

رئيس مركز «مدار» للدراسات والبحوث

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى