تزييف الوعي من أهم أسباب التخلف

> عبدالعزيز يحيى محمد

>
عبدالعزيز يحيى محمد
عبدالعزيز يحيى محمد
من بين الأسباب والعوامل المهمة والرئيسية التي أدت وتؤدي إلى إعاقة ظهور الدولة العربية الحديثة ذات السمات الديمقراطية، ما يواجهه ويعانيه الإنسان العربي من تزييف واسع لوعيه التاريخي بالواقع بمستوييه المحلي والكوني، من خلال استخدام وتجنيد عدد من الوسائل والأشخاص في المجالات الإعلامية والتعليمية والثقافية وغيرها، إذ يتم عبرها ترسيخ كل ما من شأنه تحقيق ذلك، فنجدها تدعي - مثلاً - أن نهضتنا الحضارية لا يمكن أن تتم إلا بإيقاظ وإحياء وتكرار ذلك السمو الروحي الذي اتسمت به العقود الأربعة من عمر الحضارة الإسلامية، كتأكيد على مقولة المفكر الإسلامي مالك بن نبي التي نصها «إن تكوين الحضارة كظاهرة اجتماعية، إنما يكون في نفس الظروف التي ولدت فيها الحضارة الأولى».

وللتأكيد على صحة ما ذهبوا ويذهبون إليه، نجدهم يقومون بتمجيد الذات إلى درجة المبالغة، وتجاهل واقع تخلفنا، والاكتفاء بذكر ما هو إيجابي من تاريخنا وواقعنا المعاصر، وعرضه بطريقة أيدلوجية مبتسرة، متنكرين للحقيقة التاريخية حيناً، وتلوينها حينا آخر، مما يعلم على لا عقلانية التاريخ، ولا عقلانية الواقع، ليصاب المرء جراءها بالانغلاق في وعيه العام، فيلغى لديه الإحساس بالتاريخ، أي بالتطور والتغيير، فتصعب بل تلغى مقولة الواقعي في وعيه، كما قال ياسين الحافظ.

ومن جانب آخر، فإننا نجدهم يستخدمون مقولات معينة لتفسير الظواهر والأحداث الاجتماعية التي يريدونها، إلا أنهم يرفضون في الوقت نفسه استخدام المقولات نفسها لتفسير الظواهر والأحداث المماثلة التي لا تروق لهم، فمثلاً حين يتم التطرق إلى العلمانية التي أصبحت من أهم مبادئ الحياة العامة في المجتمعات المعاصرة الغربية، فإننا نجدهم يعزونها إلى ما قامت به الكنيسة من جناية كبرى على نفسها وعلى الدين «إذ احتجزت الكنيسة لنفسها حق فهم الكتاب المقدس وتفسيره، وحظرت على أي عقل من خارج الكهنوت أن يحاول فهمه أو تفسيره»، هذا بالإضافة الى ما قامت به من تنكيل وقتل للعلماء والمتنورين وأصحاب الآراء المضادة لها من إحراق جوردانو برونو إلى نفي جاليليو.. فإذا كان هذا المنهج التاريخي يصلح لدراسة تاريخ الكنيسة ومشكلة الفصام والنكد بين المسيحية والمفكرين العلمانيين، حسب تعبير سيد قطب، فلماذا إذن لا يصلح هذا المنهج نفسه كذلك لمقاربة الإسلام وتاريخه؟ كما تساءل سعد الله ونواس. ولتبرئة الأنظمة الحاكمة العربية من التخلف والفساد والتأخر الذي تعانيه الشعوب العربية بسببها اليوم، فإننا نجدهم يحملون الاستعمار مسؤولية كل ما تعانيه الشعوب العربية، إذ أنهم يرون أنه هو مصدر كل البلاء، والأسوأ من ذلك أننا نجدهم يقومون بتحويل مسألة الإدانة للتجربة الاستعمارية إلى إدانة للحضارة الغربية وتقاليدها ومنهجها، وذلك حتى يتمكنوا من مقاومة ومناهضة ومعاداة أي دعوة أو فكر أو رأي يطالب بضرورة الاستفادة من تجربة المجتمعات الغربية وقيمها ومناهجها في مجال بناء الدولة الديمقراطية الحديثة، القائمة على مبادئ وقيم العدل والحرية والمساواة والمواطنة المتساوية وحقوق الإنسان من ناحية، واتهام أصحاب تلك الدعوات والآراء بالعمالة للغرب والخيانة والكفر..إلخ، من ناحية أخرى، وبذلك نجحوا في إعادة الاعتبار للمجتمع التقليدي، وإحياء تقاليده وعاداته التي كانت سائدة في فترة ما قبل النظام الكولونيلي. ويدل على ذلك تحمس واقتناع أعداد كبيرة من الفئات والطبقات، بما فيها المتضررة من تلك الممارسات والدعوات، حيث يتجسد من خلال النفوذ والقوة اللذين تتمتع بهما المؤسسات التقليدية من ناحية، وضعف وهشاشة مؤسسات المجتمع المدني الحديثة من ناحية أخرى. ولتثبيت واقع التخلف القائم الذي تم ويتم فرضه أكثر فأكثر، نجد أن الآلة الإعلامية والثقافية للمؤسسات العربية التقليدية، وفي المقدمة منها تلك الآلة التابعة للأنظمة العربية، تقوم بالتأكيد المستمر على أن السبيل الوحيد للحفاظ على الخصوصية والأصالة العربية يتمثل بالمزيد من الانطواء على الذات، ففي حلقة نقاش قال جان جينه لمحاوره ونواس: «إن ما تقوله أوروبا للشعوب المضطهدة وأحياناً على لسان مثقفيها الكبار من أنها تحبذ أن يكون لكل شعب وجود مستقل وهوية وحضارة متميزة وكيان مختلف مستقل يتغذى من نمط إنتاجه وثقافته المحلية.. ما هو في النهاية إلا حيلة أوروبية للحفاظ على تفوقها، وإبقاء الشعوب الأخرى في حالة مزرية». وبما أن الوعي الزائف قد أدى إلى وجود جملة من المشكلات والصعوبات من حروب أهلية وفتن طائفية واستبداد وفقر وفساد وتقهقر عقلي ومعرفي، فمن الضروري إيجاد وعي يتطابق مع المرحلة التاريخية وواقعها الملموس، كون ذلك يعد من أهم المقدمات وأكثرها اتساعاً لتحقيق مجتمع ديمقراطي حر ومتطور.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى