قصة قصيرة(( هرقل ))

> «الأيام»عمرو جمال :

> «يوسف كدّافة(1)»..انتشر صوتها في غرف الشقة وممراتها، نفذ من خلال الباب الحديدي الجديد مكتسحاً كل من وقف في طريقه، مرّ بانسيابية عبر الدرج، مروراً بكل طوابق العمارة إلى الطابق الأرضي ثم إلى الشارع حتى وصل إلى أذن يوسف، الذي كان كعادته يجلس في الشارع منزوياً عن بقية الأطفال، وخرم طبلة أذنه وأذن كل المتواجدين في الشارع.

يوسف كُدّافة.. كانت ذات يوم صيغة طلبية تناديه بها أمه ليقوم برمي الكُدّافة في برميل الحافة(2) ومع الزمن أصبحت الاسم التنظيمي ليوسف في تلك الحافة وكل الحوافي المجاورة.

- هل تعرفين يوسف ابن مريم الخياطة؟

- تقصدين «يوسف كُدّافة»؟

- نعم، ها هو جالس في الشارع منزوياً كالعادة ولا يفعل شيئاً، اطلبي منه أن يشتري لك ما تريدين من البقالة.

- لا .. إنه «سافي» (3) سيضيّع النقود.

***

- يوسف كُدّافة.. يوسف كُدّافة. لا تلعبوا معه.. ارموه بالكرة.

- أحضري الحزام يا مريم، لا بد أن أؤدبه.. هذا «السافي» لا يمكن الاتكال عليه، أطلب منه أن يحضر سيجارة فيُحضر كبريتاً، تطلبين منه شراء كيلو بصل فيشتري خسّاً، والمصيبة أنه في كل مرة يضيّع النقود ولكن الغلطة غلطتك فأنت من أفسدته بدلالك.

- أيها الغبي.. ليتني لم أُنجبك، لماذا لا تلعب مع الأولاد.. كُن رجلاً، لماذا تنزوي كالفتيات؟.. فضحتني أمام نساء الحافة.

- يوسف كُدافة.. يوسف كُدّافة.

أمسك يوسف كالعادة بكيس الكُدّافة ونزل إلى الشارع بحذر خوفاً من أن يراه أي شخص فيبدأ موال الكُدّافة الذي لا ينتهي.. كان إذا مر بجانب مجموعة من الناس تبادر إلى ذهنه أنهم يتكلمون عنه، وإذا كان أحدهم يمشي وراءه أحس بأنه سيرميه بحجر، وكلما شاهد أطفالاً توقع أن يسخروا منه ويركضوا خلفه كالمجنون.

كان مشوار الكُدّافة بالنسبة له مأساة حقيقية، يقوم به وهو يرتعد خوفاً، ولكنه ومع الزمن تعود وأصبح مشوار الكُدّافة هو مشواره المفضل، بعد أن اكتشف مقلباً ضخماً جداً للقمامة على بعد حافتين من حافته.. كان الأطفال يسمون ذلك المقلب الضخم بجبل القطط، فلقد كانت أكوام القمامة في ذلك المقلب في علوّ جبل وكان هذا الجبل مقراً رسمياً لقطط المدينة، أعضاؤه لا يقلون عن مئة قطة من خيرة القوم.

كان يوسف يسير محني الرأس ذليلاً طوال المسافة من بيته إلى جبل القطط، ولكنه عندما كان يصل إلى الجبل كان يرفع رأسه في زهو وثقة ويبرز صدره إلى الأمام كالفاتحين المغاوير ويبدأ في المشي بخطوات متثاقلة في خيلاء هرقلي غير معهود منه هو بالذات دوناً عن العالمين، فتبدأ القطط بالهروب خوفاً من يوسف في جميع الاتجاهات راكضة تارة ومتدحرجة تارة أخرى وكأنها سيل متدفق من قمة جبل القطط.. كان هذا المشهد الدراماتيكي الرائع يُشعر يوسف بالنشوة والقوة ويكسبه الثقة لثوانٍ.

يرمي الكُدّافة.. يستدير متجهاً نحو البيت.. يبدأ رأسه بالانحناء من جديد.

(1) كُدّافة: قمامة.

(2) حافة: حارة وجمعها «حوافي».

(3) سافي: أبله.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى