نجوم عدن .. إدريس حنبلة

> فضل النقيب

>
فضل النقيب
فضل النقيب
كان إدريس حنبلة العدني بامتياز، واليمني بامتيازين، والعروبي بثلاثة وقد نذر نفسه للكل، روحاً هائمة معلقة بنبض الناس، فمن ذا يستطيع لها دفاعاً؟ كان معلقاً من عرقوبه في كل أنواع القضايا التي نذر نفسه لها، ولم تكن بينها قضية تخصه، فهو منذور للوطن وللآخر الإنسان، وللإجادة والدأب وإشعال الحرائق في نفوس الشباب، يدب على الأرض مثل فصل الربيع، وحين تراه وقد علته الغَبَرة وأرهقه السُّرى ولوّحته الشموس، لا يمكن إلا أن ترى الربيع خلف ذلك الهيلمان التعبي القادم من رحلة الآلام الحنبلية، فتجد نفسك تردد وأنت لا تملك إلا أن تحبه :

أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً

من الحسن حتى كاد أن يتكلما

وفي ذروة الحكم الشمولي الذي قيد حركة الناس وجعل مجرد التفكير بالسفر جريمة تطالها مقصلة القانون، وتنقض على نواياها كلابه، كان إدريس هو الاستثناء يحمل عصاه ويرحل عابراً الحدود من قلبه إلى نبضه، ومن بابه إلى محرابه ومن عدنه إلى تعزه وصنعاه، ثم يعود أدراجه، لأنه من «المتطهرين» الذين يَدَعون ما لله لله وما لقيصر لقيصر، وهو يعيش على كفاف يومه مطمئناً إلى رخاء روحه وفساحة نفسه وبساطات حبه، كأنما هو المعني بقول ذلك المتصوف العربي الذي اعتزل الحياة والأحياء وانصرف إلى الملكوت: «لو عرف الملوك ما نحن فيه من نعيم لقاتلونا عليه بالسيوف»، ومن الواضح أن ملوك ذلك الوقت لم يكونوا في هذا الوارد، فقد كانوا مشغولين بقطاف الرؤوس التي أينعت أولاً بأول، ولا شأن لهم بالأرواح ومعاناتها وفتوحاتها.

كان إدريس حنبلة الشاعر والمعلم والمناهض للظلم الأجنبي والمعتقل والسجين نموذجاً للصلابة دون استعلاء وللتواصل مع الناس دون غلواء، وللعطاء دون انتظار المقابل، كان أمة لوحده، يحمل صليبه على كتفيه ويمضي إلى الجلجلة.

كنت ألتقيه لمماً وبالصدف، وأول ما يلفتك فيه ثقته بنفسه التي تتحدث عن نفسها في قسمات وجهه دون أن يتحدث هو، ثم لغته العربية السليمة في زمن شاعت فيه اللهجات وبدت الفصحى غريبة في ديارها، وربما كان المتحدث بها موضع تندّر كأنه هبط من كوكب آخر، وقد عرفت فيما بعد أن هذه السمة ملازمة للكثيرين من آل حنبلة. وكان إدريس مغرماً بالتوثيق، وقد أنشأ مركزاً لهذا الغرض في الشيخ عثمان لم يتسن لي أن أزوره، ولكن ذكر لي صديق أنه يحتوي على كنوز من تفاصيل الحياة اليومية لعدن وأهلها وفنانيها وأدبائها وصحفها وثوارها وتقاليدها.. وقد لاحظت ذلك في توثيقه لقصائده ضمن دواوينه المنشورة: التاريخ والمناسبة والأسماء الواردة .. إلخ، وهذا الحس التوثيقي دل على دقته ويدل الآن على بعد نظر وتفكير مستقبلي يفتقده الكثيرون، ومنهم كاتب هذه السطور، فكل شيء شذر مذر وما من مقال حظي بتاريخ إلا إذا اعتبرنا الصحف هي المرجعية، ولكن من ذا يجمع الشتات من بين سطور صاحبة الجلالة؟

ويبدو - والله أعلم - أن الأستاذ إدريس حنبلة لم يكن يثق بالمؤرخين كثيراً، لأنهم في كثير من الأحيان يصيبون النملة على ضآلتها ويخطئون الجمل على عِظمه، لذلك فقد نهض لنفسه بنفسه ولم يترك مزيداً لمستزيد، وأنا بحاجة إلى استشارة الأستاذ نجيب يابلي ابن مدينته وشبيهه في حس التوثيق وإعطاء كل ذي حق حقه، ويبدو أن الشيخ عثمان تنقل راياتها من كابر إلى كابر.

نكهة اللغة التي تشبه نكهة القهوة الصباحية المحوّجة أو الشاي العدني المعطر بجوز الطيب تلمسها في عناوين دواوين إدريس حنبلة: أغاريد وأهازيج، رحلة الشفق الأزرق، الأفق الملتهب، حينما تتكلم الأمواج، أجراس الحرية، من كهوف الذكريات، حكايات الصحاب، من خلف القضبان .. الخ وله ديوان معبر في المراثي اسمه «دموع متناثرة» ومن رثائه للمبدع الأغر لطفي جعفر أمان :

لطفي بكيتك شاعراً/هز الأصائل والسحر/مازلت ملء الحس /معنىً قد تجسد في صور/ما مات من وهب الحياة/خلاصة العمر الأغر .

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى