الوطن ليس أغنية في المذياع

> محمد الرميحي :

> بعض الخبثاء من المهتمين بالشأن اليمني من العرب يروون القصة الآتية عن اليمن الحديث، وهي أن أحدهم زار سوق السمك في عدن وسأل عن ثمن كيلو السمك فقال له البائع خمسمة ريالات. فقال متعجباً: في زمن الانجليز كان كيلو السمك بريالين، فرد عليه البائع بسرعة: يا عمي هات الانجليز، وخذ الكيلو بريال واحد فقط.

نكتة مرة بلا شك، ومغزاها لا يخفي على العارفين. ولكنها قد تقترب من الحقيقة إن قرأنا ما يحدث في اليمن اليوم قراءة قريبة إلى الواقع، فإدارة دولة بهذا الحجم وبهذه الموارد الاقتصادية المتواضعة، وبهذا التاريخ الحديث من الصراع ليس أمراً هيناً وفي متناول اليد، إلا أن القضية برمتها تستأهل وقفة، وتتطلب رؤية.

في رحلة سريعة مع نائب رئيس الوزراء الكويتي وزير الدفاع الشيخ جابر المبارك للتهنئة بالعيد الخامس عشر للوحدة اليمنية، وكانت الاحتفالات قد عقدت هذا العام في المكلا التي وصلتها الطائرة من الكويت في زمن أقل قليلاً من ساعتين ونصف الساعة، وهذا يعطيك دليلاً على كم هي بلاد العرب قريبة وبعيدة في آن.

وقد قدم عدد كبير من العرب الرسميين والشعبيين للمباركة بالمناسبة، وفي خيمة تذكرك بتواضع خيام المترشحين في أيام الانتخابات الكويتية إذا قورنت بها، عقد حفل الاستقبال الكبير في العدد والبسيط في التنظيم، وهو تعبير عن بساطة اليمنيين والعلاقة المباشرة في جمهوريتهم الفتية بين الفئات الحاكمة المختلفة والحكومة، ففجأة تجد بجانبك رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، أما وزير الخارجية القربي فلم أتعرف عليه لوهلة بسبب قبعة البيس بول على رأسه حتى خلعها.

إلا أن الملاحظات عدة على المكلا، المدينة. فلم نَرَ(بنات المكلا) اللاتي تغنى بهن الشاعر في الأغنية المعروفة «يا بنات المكلا يا دواء كل علة»، وبعضهم يغير كلمة الدواء بكلمة «يا سبب» كل علة! وكانت الأبنية المتناثرة على طول الطريق مازالت هياكل قائمة على عروشها بعد، على رغم جمال الشاطئ البحري الممتد على بعد النظر.

ومادام الحديث عن المرأة في تلك الأغنية المشهورة ، فلم يفت رئيس الوزراء اليمني أن يهنئ بحصول المرأة الكويتية علي حقوقها السياسية، فقلت له مخطئاً: إن لديكم سيدتين في المجلس التشريعي، فقال بسرعة: لدينا أربع. ثلاث منهن في البيت!

فتمكين المرأة العربية من العمل السياسي، مثل كل شيء آخر ، يمكن أن نستعير آلياته من الغرب، ولكن الواقع الاجتماعي والثقافي يمنعه من إعطاء ثمراتها على أرض الواقع بشكل أفضل. هو ذلك في اليمن وفي غيرها. فعلى رغم النصوص الجميلة في الدستور الذي يحث بقوة على مشاركة المرأة اليمنية، وعلى رغم كل الجهود (النصية) التي قامت بها تقليداًجمهورية اليمن الجنوبية في الأيام الخوالي تجاه تمكين المرأة وتعزيز الأسرة ومنع الزواج من أكثر من واحد، وتقليل ثقل القبيلة في الشأن السياسي، فإن الاصطفاف في نهاية المطاف كان على مسار الخطوط الفاصلة الاجتماعية لا السياسية، وفشلت النصوص في تغيير الواقع، لأن الواقع الثقافي لم يلتفت إليه، فكان اقتتال الإخوة على التقسيم القبلي والمناطقي في الوقت الذي ضمهم حزب واحد له شعارات واحدة، ولكن ذلك تاريخ نستذكره لنتذكر خطاياه.

وإذا كان الدواء يذكر في الأغنية الشهيرة التي تغنت ببنات المكلا فهو - أي الدواء- من أبسط الأمور التي يجب أن تتوافر للمواطن في إطار التنمية الحديثة، إلا أن القصة المتداولة في اليمن، وقد سمعتها من أصدقاء هناك في الزيارة، أن رئيس الوزراء عبدالقادر باجمال، قد أصيب بتسمم حديثاً وفقد الوعي بسبب تناول دواء فاسد! فإذا كان رئيس الوزراء معرضاً لهذا النوع من المخاطرة، فما بالك بالمواطن اليمني في القرى والأرياف الممتدة في اليمن الكبير الذي يحتاج إلى الدواء كما يحتاج إلى أبسط الأشياء. وإذا كان الدواء معرضاً للفساد، ترى ما هو مسار قطاعات التنمية الأخرى؟ هل يمكن أن يكون الفساد بعيداً عنها؟ تلك ظاهرة تستحق النظر من زاوية التنمية في اليمن، فهي تنمية مازالت بعيدة عن مرحلة الإقلاع، وليس من العدل لوم أهل اليمن ومتخذي القرار فيه، على تلك الحال من التنمية، إلا أنهم ليسوا بعيدين أيضاًً عن المسئولية، فأين يكمن الدواء في الحال التنموية اليمنية يكمن الداء أيضاً؟

ولتفسير تلك العبارة نجد أن اليمن مازل يصرف جزءًا غير يسير من موازنته على (الأمن)، بشاكلته المختلفتين الداخلية والخارجية، والأمن هنا كما هو مفهوم مكرّس في عدد من البلاد العربية. يجب السؤال، هل هو تأمين الدولة والمجتمع من خطر خارجي؟ أم هو تأمين الحكم من خطر حقيقي أو متخيل من الداخل؟ والدولة لها معنى والحكم له معنى آخر، ولا غرو أن الأمنين قد تداخلا بشدة في المفهوم العربي العام، إلا أن الأولويات في الدول ذات المصادر المنخفضة للدخل الوطني كاليمن، تستوجب التساؤل.

اليمن ليس استتناء في تغليب الأمن الداخلي على الخارجي، فليس في الأفق من يريد (احتلال) اليمن من الخارج، وليس في الأفق عدوان خارجي وشيك، أو أطماع إقليمية طاغية وصارخة ضده. إنما في الأفق صراع داخلي واضح ومتعدد الدرجات، يقوده تراكم مشكلات طويلة الأمد، لعل أهمها نوعية التعليم في اليمن، الذي استمر طويلاً تحت طائلة وإشراف المدرسة المتشددة، وكان التعليم متروكا لهذه القوة من دون مساءلة أو رقابة، أو حتى من دون تقييم لما يقدم للطلاب من (علم) إن صح التعبير، فجاء إلى الساحة اليمنية رجال متشددون يملكون كثيرا من القدرة الإقناعية لرجل الشارع، وهي قدرة إقناع نابعة من النصوص وفهمهم المتعسف لها، ويزيد من هذا الاقتناع الوضع الاقتصادي الذي يؤهل القلة لسبب أو لآخر بالثراء على حساب الأكثرية فائقة الفقر. ولا يضيف التعليم بشكله العام أية مساعدة للتنمية اليمنية، من هنا ظهرت الكثير من الحوادث التي هزت اليمن، وكان آخرها حوادث الحوثي، التي شغلت اليمن وشغلت قلوب محبيه عليه، وهي ظاهرة (ثقافية، اقتصادية). قد تختفي لتظهر أخرى غريبة، إذا لم تعالج المسألة برمتها، وعلاجها يتطلب الشجاعة والقدرة على إدارة حديثة، يتوافر لها الرجال في اليمن اليوم، ولم يتوافر حتى حينه القرار.

فرجال اليمن قد أقاموا دولاً ومجتمعات حديثة أو ساعدوا في إقامتها في بلاد المهجر التي توجهوا إليها، وفي وقت ما كان هناك أكثر من نصف دستة من رؤساء الوزارات من أصول يمنية، وخصوصاً من أبناء الجنوب في بعض بلاد آسيا ذات الثقل اليمني المهاجر. كما كان لعمل بعض التجار اليمنيين في الخليج صيت ذائع في تكوين الثروات والحفاظ عليها وتنميتها، فالخصوصية اليمنية في نقص التنمية ليست بسبب نقص الرجال ولكنها على الأقرب بسبب عوز في استخدام الموارد على أسس صحيحة، منها الصرف على قنوات الأمن الكثيرة، وبعضها من صنع اليد، كما حصل في الإعلان الأخير عن القبض على خلية من رجال صدام حسين بسبب تآمرهم للاعتداء على مصالح غربية في اليمن، ترى من مكنهم في المجتمع اليمني ليفعلوا ذلك؟

يحتاج اليمن إلى جهد حقيقي عربي، وخصوصا خليجي، بسبب القرب والمصالح المشتركة، لإقالة عثرة عجلة التنمية وتسريعها، ولكنه أيضاً يحتاج إلى ما يعرف اليوم بالشفافية في الإدارة. لأن الوطن ليس صورة في الشوارع، ولا أغنية في الإذاعة. إنه تخطيط تنموي للإنسان البسيط طويل المدى خال من المصالح الأنانية.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى