أزمة مثقفي السلطة

> أحمد عمر بن فريد:

>
أحمد عمر بن فريد
أحمد عمر بن فريد
أراه أمراً عسيراً أن يقول المرء ما لا يعتقده أو يؤمن به، وأراه أمراً تعيساً حينما يناقض الإنسان نفسه بنفسه، وهو يعلم تماماً أنه يفعل ذلك بتعمد واضح وبوجه أشد ما يكون لقليل من الماء في خلاياه حفاظاً على مائه كما يقولون، وكم يكون الأمر محزناً للمثقف وهو يختار لنفسه بملء إرادته الانحشار في زاوية ضيقة ظلماء، لا تمنحه فرصة المناورة التي قد يتطلبها الحوار في لحظات معينة .. زاوية لا تستوعب المنطق ولا يوجد للواقع بها مكان على ضيق مساحتها. وأراه مستغرباً ولا يمكن تخيله أن يقبل المثقف عربي الارتهان الطوعي لقيود الحاكم مقابل قليل من الراحة، والراحة هنا يمكن أن تكون أي شيء بكل تأكيد، إلا راحة الضمير، لأنني على يقين مطلق أن ضمير هؤلاء الذين اختاروا لأنفسهم أدوراً لا تتناسب مع معارفهم ولا مع قناعاتهم أو ثقافتهم، إنما يعيشون حالة من الصراع المستمر مع الضمير الداخلي الصاحي، الذي يتخاصم معهم في كل لحظة يقولون فيها زوراً أو بهتاناً، وفي كل موقف ينافقون فيه مسؤولاً أو وزيراً.

أزمة المثقف العربي مع السلطة تبدو أزمة واضحة للعيان في أقطارنا العربية بشكل عام، وقلما تجد لها مثيلاً في باقي بلدان الله على هذا الكوكب، وحينما تشاهد هذا المثقف، وهو يحاول أن يقنع (الآخر) بما ليس هو مقتنعاً به أصلاً، ترثي لحاله التعيس وتشفق على وضعه وتحزن على ثقافته ومكانته ومعلوماته وحتى على كرامته، التي ارتضى تجييرها في حساب خاطئ .. مقابل لا شيء!!

أتساءل بكثير من الفضول، ترى ماذا يدور في خلد الحاكم وهو يشاهد مثقفه الضعيف يحاول جاهداً، وبكل ما منحه الله من وسائل وقدرات، تجميل وتلميع الشاحب وتشذيب غير المتناسق من قضايا الأمة، التي يعلم المواطن مدى قبحها ومدى شحوبها وفوضاها.. ترى في أي منزلة (حقيقية) يضع الحاكم هذا المثقف (المسكين) أم أن أحداً من هؤلاء لم يخطر بباله سؤال من هذا النوع؟

مؤخراً قرأت لإعلامي يمني كبير، كان قد بدأ انطلاقته الأولى بكل نجاح وتألق، ثم اختار أو اختير له أن ينضم إلى كوكبة من يمهرون كل شيء في هذه البلاد بمهر المغالاة الكبير الذي يقول: «كل شيء تمام».. أنكر هذا المثقف وجود أي أزمة سياسية أو اقتصادية في البلاد، واكتفى بالقول إن ما لدينا فقط هو أزمة إدارة تراكمت عبر عقود من الزمن، وضرب مثلاً ببريطانيا الديمقراطية، التي لا يجوز أن يقال إن بها أزمة سياسية عندما يختلف الحزبان الرئيسيان العمال والمحافظين، وكأننا بواقعنا الديمقراطي اليمني الحي!! قريبون جداً من النموذج البريطاني حتى تجرى من قبله عملية المقارنة تلك.

ولكن صاحبنا هذا، لم يلبث إلا أن قفل الباب الذي فتحه، حينما هبت عليه رياح المنطق التي سألت ضميره وعقله عن واقع الديمقراطية في بلادنا إن كانت بعافية تامة أم هي كسيحة ومشلولة؟.. فكانت إجابته (اكروباتية) ولكن بقفزة فاشلة يشهد بفشلها وعدم جمالياتها من يملك قليلاً من إمكانيات التحليل .. إذ قال صديقنا المثقف: إنه لا يمكن أن نقارن الديمقراطية في بلادنا بديمقراطيات الغرب، لأننا نحتاج إلى عشرات السنين حتى نصل إلى درجتهم في العمل الديمقراطي!

والحال هكذا.. دعنا نقر بما ذكر في هذا المسألة من الناحية الجدلية فقط، ولدواعي الحوار ليس إلاّ، ثم نتساءل بكل براءة: ولماذا إذا كنت تجيز مقارنة (الفوضى السياسية) التي لدينا هنا (بالنظام السياسي) في بريطانيا، ثم تسحب قالب القياس هذا الذي اخترته حينما وجدت أنه لا يمكن أن ينصفك فيما تحاول إثباته؟

هذا نموذج واحد فقط لحالة المثقف العربي، الذي اختار الارتهان لغير قناعاته، ولغير قضايا أمته، وما أكثرهم اليوم على المسرح السياسي العربي تحديداً، وما أتعس حالهم حينما تكون المناظرة معهم حية ومباشرة على الهواء مع من يملكون الأرقام ويتحدثون بلغتها، في حين لا يملك هؤلاء سوى ترديد الشعارات الجوفاء، وحكم (زعاماتهم) الضرورة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى