سيرورة الجبر المثلى..في رحلة البدء و المنتهى

> «الأيام» مازن سالم صالح:

> تغدو بعض النصوص الشعرية.. وكأنها محملة بصبغة الحياة والديمومة، إذ تدوم لها السيرورة.. وتخلد في الأفق.. وتخترق جدار الزمن .. وتنفذ إلى القلوب، لأن لها من السمات الفاعلة ما قد يجعلها تتوهج حتى في آماد لاحقة لتأتي بعد ذلك تأويلات الملتقي وتصوغ لها كل هذه الظواهر الدلالية في أبعاد، قد تتفاوت بحسب جمالية الأسلوب لهذا النص أو ذاك، وقيمه الجمالية والرمزية ومعطياته الإبداعية ككل.

وبعيداً عن مسألة تنميط الجنس الأدبي من حيث هو كما وجد، أو كما أوجدته النظريات الأدبية الحديثة.. وأجملته في خمسة تصنيفات تبدو معروفة للنقاد، لكن الاختزال الذي يستوجب ذكره هنا أن بعض النقاد يقترح نوعين فقط هما الأدب واللا أدب.

وعلى اعتبار أن كل عمل أدبي يعتبر نوعاً قائماً بذاته، له فرادته وأثره وأسلوبه وشكله وخصوصيته التي تربطه بجنس الأدب، لما بينهما من سمات وعلائق. وإذا ما خرج عن هذا القول، فهو يتناقض مع الأدب، وتنتفي الصلة بينهما طبقاً لمجمل الآراء السائده في النظرية الأدبية الحديثة.

ويتضح من ذلك أن الشعر الشعبي كنص أصيل ومبدع، مشبع بالموروث، غني بالدلالات الرمزية والموضوعية .. يندرج تحت هذه المقاييس التي اعتمدها الدارسون في تصنيفاتهم للأدب.

والحال أن ذلك أمر طبيعي باعتبار أن الشعر الشعبي جنس شعري قائم بذاته ولم يحدد كنوع أدبي في أي تصنيف أو مفهوم أو نظرية كانت، وبهذا يمكننا إطلاق الحصار النقدي الذي عانى منه الشعر الشعبي في حقب متفرقة من تاريخنا الإبداعي.

ومن هنا كانت انطلاقتنا لتمثل القيم الجمالية والظواهر الدلالية والرمزية والموضوعية في الإيقاع الدرامي الغنائي الشعري، الحافل بالمتغيرات الخطابية التي تعين على الوقوف على استدلالات جمة، على خلفية التجربة الإبداعية التي أبدعها شاعر ديوان «الجبر بيته على الدنيا» الذي لا يمكن لأي متلق كان تفاديه أو إغفال الولوج إليه، لما للمكانة المحورية التي يحتلها هذا النص بالذات في هذا الديوان، الذي تشكل فيه المفردة الشعبية بتفردها وطرواتها وأصالتها، سيرورة لا نهائية من التلقي.. تنداح نصوصه فيها في دائرة دلالية كلية مبنية على عوامل الخصوصية ومجموع الوشائج التي تجمعها في إطار الدلالة الواحدة التي تتماثل في الأسلوب وتتغاير في النصوص، وبذلك يمكن تمييز هذه التجربة على خلفية الأثر المستمد منها والمحدث فيها.

وكل هذه الافتراضات تعني أننا أمام تجربة هي في جميع الأحوال متفردة حتى وإن بدت غير تامة، وهذا هو جوهر الالتفات إليها والتعلق بها، لأننا حقيقة أمام نصوص مفعمة بالشعرية توهجت كتعبير صادق عن كوامن هذه التجربة التي تبدو العلاقة الدرامية بارزة على مسرحها .. سيما وهي تعي الخطر المحدق وتتطلع إلى حل .. أو بداية منورة بشمس عائدة.. تعيد التلاحم والوفاء والود الصادق، من أجل حياة تتسع فيها الدورب لكل الناس ولا تضيق بهم أو عليهم، ثم تصر على ذلك إصراراً وتزداد عليه لهفة من خلال ثيمات إبداعية خطابية مقرونة بضمير المتكلم «أنا»، التي وظفت توظيفاً مناسباً لتسهم بعد ذلك في التعبير المتوهج وتغدو أداة مؤثرة تحمل سمات «الملحمة»، لما فيها من حماسة واندفاع وتكرار، إضافة إلى صيغ الأفعال المنبثقة عن حيثيات هذه التجربة من مثل «واسوني .. زوروني» وغيرها، لتأتي بعدها أدوات النداء التي تسبق الصفات والأسماء في (يا أحباب ياناس) وقبل كل ذلك الاستفهام الذي يبتدئ به صاحب ديوان «الجبر بيته على الدنيا» الشاعر المرحوم ناصر سالم عمورة، والذي عزز بجمل متتابعة ذات وحدة وإيقاع موسيقي محمل بدفقات شعورية، لا يملك المتلقي إزاءها إلا الاهتزاز طرباً والتفكر بها واقعاً والتدبر فيها حالاً.

«كم ناس راحوا من الدنيا/ ما قط حد شل في يده/ طرح ضماره و محصوله/ ينعم به الغير من بعده/ واللي عمل خير في الدنيا/ لابد في الآخرة يلقاه.

ومن هنا بالذات يمكننا أن نضع أيدينا على مفاتيح رحلة البدء والمنتهى أو الرحلة من الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة، كما تبدت ماثلة من حقيقة قول «العمورة» وهذه حتمية مسلم بها عقائدياً، والدال عليها أي الرمز أتى ظاهراً في أن جزاء الإحسان هو الإحسان.. وأن خير الأعمال وأبرها لابد أن تؤدى في الحياة الدنيا، فهي دار امتحان وعمل.

والدلالة واضحة وبيانها مقصود في ظاهر الحديث الشريف .. «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث...»، والشاهد هنا العمل الصالح، الذي دلت عليه الخطابية المبتدئة بالاستفهام .. كم ناس راحوا من الدنيا؟ ماقط حد شل في يده!!

وها هنا بالذات تمحورت تجليات هذه الرحلة، التي تعبر عن حالة رومانسية تجبرناً على التجوال في أكثر من دائرة دلالية.. تتسع فيها حدود المعرفة وتضيق بحسب حالة التوافق والتضاد النفسي التي تداهم قائلها وهو يواجه الواقع، متماسك حيناً وقادر على مجابهته ومقاومته في الحلم المجرد الذي تمنى تحقيقه، تفسره الصورة الشعرية لبداية الرحلة «الماراثونية» التي كانت لها محطات عديدة في غدوها ورواحها.. عبر عنه الاختيار الأسلوبي في الإيقاع الدرامي بسطوة شعرية إيقاعية.

«الجبر بيته على الدنيا/ وإن مت أنا جبركم ماباه!!».

إضافة لذلك فإن هذا الخيار الأسلوبي يرتكز على أفعال إنشائية واستفهامية تحطم قيود الفردية وتقلنا عبر الخطابية العامة.. في عمق التأثير الشعري الذي يوحد بين الطبيعة والإنسان.

كم ناس راحوا من الدنيا ماقط حد شل في يده

طرح ضماره ومحصوله/ ينعم به الغير من بعده

واللي عمل خير في الدنيا/ لابد في الآخرة يلقاه.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى